نضال منصور
أدهشتني مقابلة جلالة الملك مع شبكة التلفزة "بي بي اس" والتي أجراها الإعلامي الشهير تشارلي روز، وجلست أستمع باهتمام لكل كلمة قالها الملك، ولكل الأسئلة الهادئة والمحنكة التي طرحها الصحفي، وشعرت بأن الملك يقدم توصيفاً شاملاً للربيع العربي إقليمياً وأردنياً.
شدتني كاريزما الملك في المقابلة وشفافيته وتلقائيته في الإجابة، والأهم النسق السياسي والفكري الذي يتجلى في إجاباته، وحقيقة تمنيت لو كنت من أجرى المقابلة، وتأملت لو يخرج الإعلام المحلي من مجاملاته إلى الحوار الجريء.
المقابلة مليئة بالمحطات التي تستحق التوقف والتحليل، ولكن أكثر ما لفت انتباهي أن الملك يقدم تصوراً لبرنامج مرحلي، فالمرحلة الأولى كانت في 18 شهراً مضت من بداية الربيع العربي، وتمثلت في إنجازات أهمها تعديل ثلث الدستور، وإقرار الهيئة المستقلة للانتخابات، والمحكمة الدستورية، ونقابة المعلمين، وتعديل قانون الأحزاب والانتخابات، والحوار المباشر مع كل الأطراف في الشارع.
والمرحلة الثانية برأي الملك وهي الأصعب بعد الربيع العربي، وهي حين ينشغل الشعب بالإجابة على سؤال الهوية .. ماذا يعني أن تكون أردنياً؟!، وفي هذه المرحلة يعتقد الملك بأن العمل يكون في البرلمان وليس في الشارع، وأن الهدف في نهاية المطاف بناء أحزاب سياسية قوية تمثل "اليمين والوسط واليسار"، وأن الفرصة مواتية لتغيير قانون الانتخاب بشكل أفضل مما هو عليه، معترفاً بأن القانون الجديد ليس مثالياً ولكن يحقق إعادة التوازن.
ويعترف الملك أيضاً بأن التغيرات التي حدثت ليست نهاية المطاف بل بدايته، وأن قوة النظام الملكي في قدرته على التطور المستمر.
وينصح الملك الاخوان بالمشاركة في هذه المرحلة الانتقالية ويعتبرها فرصة حتى يسهموا في بناء تصورات المستقبل، مؤكداً بأنه لا يمكن تفصيل قانون على مقاسهم، وأن المطلوب من القوى الإسلامية وتحديداً الاخوان التخلي عن منطق الخطابة وتقديم نهج عملي.
من الملفت للانتباه أن الركيزة الأساسية لبرنامج الملك هو الحديث عن بناء طبقة وسطى نابضة بالحياة، مؤشراً إلى أن هذه الطبقة تئن تحت الضغوط المتواصلة.
هواجس الشأن الأردني لا تأخذه عن مجريات ما يحدث في الإقليم، والشأن السوري هو الأبرز، فهو قلق من حرب أهلية طائفية في سوريا، وهو خائف من تفكير نظام الأسد في جيب علوي، وهو يطالب بإشراك العلويين في أي خطط للمستقبل لقطع الطريق على تقسيم سوريا.
ولا زال الملك رغم كل ما حدث خلال أشهر الربيع العربي مدرك بأن القضية الجوهرية هي القضية الفلسطينية، وأن الصراع العربي الإسرائيلي لا يمكن أن ينتهي مهما طغت من أحداث ومهما استأثر الإعلام بملفات أخرى.
ولا يرى الملك بأن هناك صراعاً طائفياً داخل الإسلام، بل سياسيون يستغلون الدين لتحقيق مصالحهم، مقدماً تنظيراً مميزاً عن الآيديولوجيا الإيرانية وتحركها السياسي في المنطقة، وأسئلة الشارع العراقي بين الهوية الطائفية والهوية الوطنية العراقية!.
حين تستمع للملك في هذا الحوار تجده متقدماً جداً على حكومات تخاف أن تتحدث عن التحديات التي تواجه النظام الملكي، وبأن الدستور ليس مقدساً وقابل للتعديل دائماً، وبأن قانون الانتخاب بصورته الجديدة مؤقتاً ومرحلياً، وبأن الهدف النهائي لقانون الانتخاب أن يكون عادلاً في تمثيله للمواطنين، وبأن يحقق تمثيلاً متوازناً للمدن التي حرمت من حقوقها لعقود.
في كل الملفات التي طرحها الملك في هذا الحوار كنت متفقاً معه، وتمنيت لو تقدم خطوة أخرى أكثر جذرية بالتجاوب مع تصورات لجنة الحوار الوطني لقانون الانتخاب، فهذه اللجنة عبرت عن تفاهمات وتوافقات بين كل مكونات الشارع الأردني، وكان من المهم الأخذ برأيها لقطع الطريق على المزايدات السياسية ليرسو قارب الإصلاح الأردني على بر الأمان.
لم يفت الوقت، والملك الذي يملك كل هذه الشجاعة في الطرح والمكاشفة قادر على التقاط اللحظة، وفتح الطريق للمرحلة الثانية من الإصلاح والتغيير الأردني.