بحثتُ عن (عبد الله التّلّ)، كان يجلسُ وحيدًا، تحت نخلةٍ، يسند ظهره إليها، يتناول حصًى من الأرض، ويرميه بصمتٍ. كنتُ في أوائل العشرين من عمري، وكان هو في أوائل الثّلاثين، كنتُ أسمع عن شجاعته، وعن عقيدته القِتاليّة، وعن حماسته، لكنّني في تلك اللّيلة رأيتُ وجهًا آخر منه، اقتربتُ منه، وسألتُه: "كيفَ ترى الأمور؟". فردّ دون مقدّمات: "إنّهم يُقدّموننا قربانًا". ولم أفهم، فسألتُه: "مَنْ تعني؟". فردّ بكلمة واحدة: "الدول الكبرى". واستوضحتُ منه، فالتفتَ إليّ وقال: "أتعرفُ كم عدد جيوشنا السّبعة الّتي سمعتَ هياجها وصِياحها قبل قليل، الجيش الأردنيّ والمصري والعراقي والسّوري واللّبناني والسّعوديّ وجيش الإنقاذ، ومعه جيش الجهاد المُقدّس، كلّ هؤلاء لا يزيدون عن عشرة آلاف، واليهود الّذين نُسمّيهم عصابات، يملكون أكثر من مئةٍ وعشرين ألف مقاتلٍ.
ما معنى هذا يا مشهور؟". ووجمتُ، لم يكنْ لديّ أيّ جواب. لكنّه قال: "هل تعتقد أنّهم يريدون تحرير فلسطين بهذه الطّريقة أم تسليمها؟ هل تعتقد أنّهم يريدون لنا نحن أفراد الجيوش السّبعة أنْ نقاتل أم ننسحق، إنّهم يبعثون بنا إلى مجزرة يا مشهور؟ إنّهم يُلقون بنا إلى مذبحةٍ جماعيّة! أرأيتَ إلى شليّة من الأغنام تُحبَس في زريبةٍ ثُمّ تمتدّ إلى أعناقها آلاف السّكاكين؛ ها نحن". ولم أرَ بؤسًا ولا يأسًا في وجه رجلٍ كما رأيتُه في وجهه ذلك اليوم، وأخذتْني بعضُ الحميّة فقلتُ: "ولكنّ هذه النّفسيّة ستُحطّم جيشنا". فردّ: "جيشنُا لا يدري شيئًا، وسيبقى لا يدري شيئًا، أمّا أنا وأنتَ والّذين يعرفون فعلينا أنْ نقاتل حتّى حزّ الحلاقيم، هذا قَدَرُنا ولا فِرار منه". ووقف على قدمَيه، وقبل أنْ يمضي بعيدًا، قال وهو ينفثُ هواءً حارًّا من صدره: "أتعرفُ كم عدد القادة الّذين سيخوضون المعركة ضدّ اليهود؟ إنّهم خمسةٌ وخمسون قائدًا، ليس بينهم من العرب إلاّ خمسة، والبقيّة إنجليز، وغلوب القائد العامّ إنجليزيّ، ولا أحد يستطيع أنْ يشرب كأس ماءٍ واحدةٍ دون الرّجوع إليه... هل هذه حرب تحرير أم حربُ تدمير. أم حرب تسليم؟!". ومضى، ورأيتُ ظهره قد انحنى كأنّ جبلاً من الهمّ قد أناخَ عليه!!
يوم_مشهود
عبد_الله_التل مشهور_حديثة_الجازي
نكبة فلسطين _1948 أيمن_العتوم
تحريرا في 18/4/2024
الكاتب والمكر الفلسطيني
العميد يونس سالم الرجوب