إن العدل أساس الملك، وإذا أراد الحاكم أن يكون عادلا، فعليه بتعيين البطانة الصالحة، فهي خير معين له في إتخاذ الصائب من القرارات، وإذا كانت البطانة فاسدة، فطبيعي أن تكون قرارات الحاكم سيئة وليس فيها مصلحة الشعب والأفراد، وإنما مصلحة من أعانوه فقط على إتخاذ مثل هذه القرارات. فالبطانة السيئة لا يهمها سوى نفسها.
ومن هنا كان القول المأثور: «خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه». فالرسول الكريم "عليه أفضل الصلاة والسلام" حثنا على إختيار الجليس والخليل والصاحب والبطانة، فالسلف الصالح كان أشد حرصا على الأنس بالجليس الصالح، والصاحب التقي، الذي يعين على الخير والطريق الرشيد.
البطانة هم الخواص المقربون الذين يستشيرهم الحاكم، وشبهت ببطانة الثوب لقربها من الجسد ولأنها مما يليه، ولها نصيب كبير من عناية كتب فقه السياسة الشرعية، نظراً لما تمثله من تأثير قوي على سياسات وقرارات الحاكم، وهي تمثل في تركيب الدولة المعاصرة، السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وتمثل البطانة فئة خاصة من المحكومين، تنوب عن الحاكم وتشاركه في تصريف أمور الدولة، وفق صلاحيات ممنوحة لهم.
وإذا كان لكل حاكم بطانةو أعوان، فالبطانة هم المستشارون والوزراء المقربون عيون الحاكم وحلقة الوصل بينه وبين شعبه وجمهوره. والبطانة أو الونيس توصل إلى الحاكم كل الأمور التي يصعب عليه أن يحصرها أو يطلع عليها بنفسه سواء لقلة وقته أو بحكم صعوبة الحركة، نظرا لمسئولياته الجسام. فالمستشارون أو البطانة، هم هؤلاء الرجال الذين يفترض فيهم الإخلاص والأمانة والتقوى والإصلاح. فمشورة الصالح والتقي والأمين والمخلص تأتي بالقرار الرشيد والرأي السديد، ومن ثم تكون النتيجة لتلك المشورة هي النتيجة المرجوة، لأن الأصل في الإستشارة الأمانة.والإشارة بالأصلح، لقوله صلى الله عليه وسلم: «المستشار مؤتمن». وفي الحديث: «من استشاره أخوه المسلم فأشار عليه بغير رشد فقد خانه».
فلينظر كل حاكم وأمير ومسئول فيمن وثق، وبمن إسترشد، فكل امرئ يحشر مع بطانته المختارة. بيد أن هذا لا يلغي مهمة الحكم الرشيد، وهي أن يكون نظامه قائما على ضمان المصالح الحيوية لكل أفراد الشعب. فالحكيم هو الذي يتابع شئون الحكم عبر الإستشارة والمشورة. وهذا لا يلغي مصداقية الحاكم الرشيد، لأنه وثق في صاحب الإقتراح الذي يقدم مشورة أمينة، وهنا تبقى عظمة القائد في الإنصات بعقل لا يلغي قلبا، ليكون القرار محايدا وحكيما وصائبا، يستفيد منه الجميع ولا يجني على أحد.
ليس أمامنا سوى ضرورة إختيار البطانة الصالحة، فهي العين الساهرة واليد الممتدة بالخير إلينا، حتى يدرك الحاكم العادل العدالة.بعقله وبطانته الأمينة، لأن الحكمة تقتضي أيضا توسيع دائرة الأوفياء لا الخصوم كما ذكر الأمير الأموي. فالصالحون يصلون بين الحاكم وشعبه، أما السيئون الفاسدون فهم الذين يصنعون من حول الحاكم سورا ويعلون في وجهه جدارا يفصل بينه وبين شعبه، وهذا ما ليس في طبع العادلين ولا في طبيعة العدل.
من المعلوم أن مهام الحكم أثقل من الجبال، وأي حاكم مهما بلغت قدراته الإدارية، لن يستطيع القيام بها وحده، لذلك يحتاج إلى من يؤازره ويعينه، وقد طلب نبي الله موسى من الله سبحانه وتعالى، أن يشاركه أخوه هارون في أمر القيام بأعباء الرسالة (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري).
والرسول الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم"، بيّن خطورة البطانة في الحديث الشريف عندما قال: (مَا اسْتُخْلِفَ خَلِيفَةٌ إِلاَّ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْه،ِ وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ).
ويعد من دلائل عبقرية أمير المؤمنين سيدنا عمر"رضي الله عنه"، أنه كان يحرص على بقاء كبار الصحابة حوله، ومنعهم من السياحة في البلاد، أو الإستقرار بعيدا عن مركز الدولة في المدينة، حتى تكون حوله بطانة صالحة يستشيرها وتسانده.
البطانة إما أن تكون همزة الوصل كما هو الحال زمن الرسول الكريم سيدنا محمد "صلى الله عليه وسلم" وصحابته المكرمين"رضي الله عنهم" أو همزة القطع بين الراعي والرعية كما هو الحال في هذا الزمن الذي نعيش، إما أن تكون جسرا للتواصل بينهما، أو تكون حجابا من الأسوار بينهما. ويرى ابن الأزرق في كتاب “بدائع السلك في طبائع الملك”،أن السلطان كالطبيب، والرعية كالمرضى، والوزير كالسفير بين المرضى والأطباء، فإن كذب السفير فقد بطل التدبير، وكما أن السفير إذا أراد أن يقتل أحدا من المرضى وصف للطبيب نقيض دائه، فإذا سقاه الطبيب على صفة السفير هلك العليل، كذلك الوزير ينقل للملك ما ليس في الرجل فتتم تنحيته جانبا. وإذا كان الدخان يدل على النار، والأثر يدل على المسير،فإنه ليس أدل على صلاح الحاكم من إختياره للبطانة. وتعد البطانة التي سبق وأن قلنا إنها تمثل عناصر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، هي خط التماس مع الجماهير، وليس الحاكم، ولذلك تأخذ هذه الجماهير السمات ذاتها التي تكون عليها البطانة، فلكل بطانة، بطانة أدنى منها، فيحصل الإقتداء بكل بطانة من التي هي أدنى منها، حتى تصل إلى الفرد بالرعية، ومتى رأى المواطن أن هذه المؤسسات وعناصرها ظاهرة الفساد، غارقة في الفساد والمحسوبيات وإهمال شؤون الناس، تعامل على هذا المبدأ في سائر حياته، وبرر لنفسه التعاطي مع الفساد والإفساد، أما إذا كانت على مستوى القدوة، فإنه يأخذ سمتها من الصلاح والإصلاح.
اللهم احفظ جلالة الملك عبدالله الثاني ، ووفقه لكل ما تحبه وترضاه، وسدد خطاه وبارك له في عمره، وارفع درجته ويسر أمره واجزيه خير الجزاء، اللهم احفظه من شر الأشرار، وكيد الفجار، اللهم خذ بيده، اللهم احرسه بعينيك التي لا تنام، واكفه بركنك الذى لا يرام، واحفظه بعزك الذى لا يضام، ، اللهم واجعله ذخرا للإسلام والمسلمين، اللهم واصلح بطانته وخذ بيده واعنه على عمل الخيرات .
الدكتور هيثم عبدالكريم احمد الربابعة
أستاذ اللسانيات الحديثة المقارنة والتخطيط اللغوي