خاص- عيسى محارب العجارمه - رحم الله الرجال العظام الذين أضافوا لتاريخ الشرق مجدا على مجد ، وفيهم جماعة من أرباب الأقلام وآخرون من خيرة الرجال؛ كالشيخ محمد عبده، ومصطفى كامل، وقاسم أمين، وغيرهم .
ويمكن تقسيمهم لخمسة تصانيف بالنسبة للقطر المصري الشقيق قبل ثورة ١٩٥٢ وكما يلي:-
(١)أمراء العائلة الخديوية.
(٢)الملوك والأمراء.
(٣)القواد.
(٤)رجال الإدارة السياسية.
(٥)رجال الأعمال وأهل البر والإصلاح.
واذا أضفنا لهم تراجم كثيرين من أهل العلم والأدب فسنجد مادة خصبة أدبيا.
بالنسبة للعائلة الخديوية مفتاحها بيد صانعها محمد علي باشا بطل مصر بالتاريخ الحديث نسبيا. ذاك الغلام الألباني اليتيم، الذي مات له ستة عشر أخا ووالديه وليس له من يعوله إلا عمًّا اسمه طوسون آغا، فجاء به إلى بيته شفقة عليه، غير أن المنيَّة عاجلت طوسون فقُتل بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيمًا قاصرًا وليس من ينظر إليه. ولعل ذلك سبب حقده علي تركيا.
كان يقول عن نفسه:- وُلد لأبي سبعة عشر ولدًا لم يعش منهم سواي، فكان يُحبني كثيرًا ولا تغفل عينيه عن حراستي كيفما توجهت، ثم توفاه الله فأصبحت يتيمًا قاصرًا، وأُبدِل عزِّي بذلٍّ، وكثيرًا ما كنت أسمع عشرائي يكرِّرون هذه العبارة التي لا أنساها، وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعيس بعد أن فقد والديه»، فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يُحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل، فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهمَّة غريبة حتى كاد يمرُّ عليَّ أحيانًا يومان ساعيًا لا آكل ولا أنام إلا شيئًا يسيرًا، وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرًا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره، وكنت صغيرًا، فتركني رفاقي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب معنا، أما أنا فجعلت أجاهد في الماء وِسْعي، تتقاذفني الأمواج، وتستقبلني الصخور حتى تهشمت يداي، وكانتا لا تزالان يانعتين، وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالمًا، وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسمًا من مملكتي.
ومما يُحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردَّد على رجل فرنساوي مقيم في قوالة اسمه المسيو ليون، وكان من كبار التجار محبًّا للفضيلة وحالمًا، رأى محمد علي للمرة الأولى، فشفق عليه وأحب مساعدته؛ لما توسم فيه من الفطنة والنباهة، فكان يُقدم له كثيرًا من حاجياته ويسعفه بكل ما في وسعه حتى ألِفه محمد علي كثيرًا، وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر واستخدامه أفرادًا منهم في مصلحة البلاد، ويُقال: إنه رحمه الله بعث سنة ١٨٢٠ إلى المسيو ليون المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنًا في ضيافته، فأجاب دعوته، ولكنه مات قبل قدومه، فأسف عليه محمد علي كثيرًا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.
أعماله الحربية
فلما رسخت قدم محمد علي باشا في مصر أخذ في تسليم مصالح حكومته إلى من يثق بهم من ذوي قرباه؛ لأنه كان شديد المحبة لعائلته ولا شك أن أزره اشتد بهم، ثم استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب فأرسل السلطان محمود خان يعهد إلى محمد علي باشا أمر إخضاعهم وتخليص البلاد من أيديهم.
والوهابيون فئة من المسلمين ذهبوا إلى إغفال كل الكتب الدينية الإسلامية إلا القرآن الشريف فهم بمنزلة الطائفة الإنجيلية عند المسيحيين. زعيمها الأول يدعى محمد عبد الوهاب، وُلد سنة ١١١٠ﻫ/١٦٩٦م، ولما شبَّ تفقَّه وحج ثم أظهر دعوته فالتفَّت عليه أحزاب كثيرة، فافتتح نجدًا، فالحجاز، فالحرمين، وما زال يفتتح في بلاد العرب حتى تُوفِّي سنة ١٢٠٥ﻫ/١٧٩٨م وسِنُّهُ ٩٥ سنة، فاستمرت أحزابه في أعمالهم حتى سنة ١٢٢٤ﻫ سنة ١٨٠٩م تحت قيادة الأمير سعود، وقد أصبحت حدود مملكتهم من الشمال صحراء سوريا، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الشرق خليج العجم، ومن الغرب البحر الأحمر، فنهبوا الكعبة وقد استفحل أمرهم، ولم يرَ الباب العالي بُدًّا من تكليف بطل مصر إخضاعهم.
فأجاب محمد علي مطيعًا، وجعل يجمع القوات اللازمة لتلك الحملة، لكنه فكر في أمر المماليك فخشي إذا سارت الحملة أن لا تكون البلاد في أمن منهم فيجمعون كلمتهم ويعودون إلى ما كانوا عليه من القلاقل، فعمد إلى إهلاكهم قبل مسير الحملة، لكنه في الوقت نفسه عمل على إعداد مواد الحملة، فجند أربعة آلاف مقاتل تحت قيادة ابنه طوسون باشا ثم طلب إلى الباب العالي أن يبعث إلى السويس بالأخشاب لبناء المراكب اللازمة لنقل الجند ومعدات الحرب، فأرسل إليه ما طلب، فابتنى ثمانية عشر مركبًا، وأعدها عند السويس في انتظار الحملة.
أما المماليك فكانوا قد يئسوا من الاستقلال فخلت البلاد من المماليك عكف محمد علي على المهام الأخرى، وأخصها مسألة الوهابيين، فكتب إلى غالب شريف مكة يخبره بإعداد حملة تنقذه من الوهابيين فيفتح طريق الحرمين لجميع المسلمين، وطلب إليه أن يمهد له السبيل فأجابه شاكرًا ووعده بالمساعدة.
أما سعود أمير الوهابيين فأنبأته الجواسيس بما نواه محمد علي، فأمر فاجتمع حوله خمسة عشر ألفًا ليدفع بهم جنود مصر. أما حملة طوسون فركبت من البحر من السويس حتى أتت ينبع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، ومنها يتصل إلى المدينة، فتملكوا ينبع، وساروا منها إلى صفر وفيها معسكر الوهابيين وقد تأهبوا للدفاع، فهجم طوسون باشا فتقهقر الوهابية.
وبعد قليل من موت نجله طوسون، عاد محمد علي إلى روعه فأخذ يهتم في أمر الوهابيين خشية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكتب إلى عبد الله بن سعود أن يأتي إليه بالأموال التي استخرجها الوهابيون من الكعبة، وأوسعه تهديدًا، ثم جرد إليه حملة عهد قيادتها إلى ابنه إبراهيم وكان باسلًا مقدامًا، وقائدًا مجربًا، لا يهاب الموت، شديد الغضب سريعه، ولكنه كان سليم القلب حر الضمير؛ ولذلك كانت أحكامه عادلة وشفافة بلغة عصرنا الحاضر.
لقد بنى محمد علي باشا بطل مصر بالتاريخ الحديث دولة عصرية حديثة مستقلة عن تركيا والدول الاستعمارية كفرنسا وبريطانيا وبنى جيش مصر العظيم الذي يضاهي الجيوش الأوروبية وأرسل البعثات الدراسية للدول الأوروبية فحرر الروح المصرية من قيود المحتل الأجنبي .