لم يكن العرشُ يوما على الحِياد في معادلة الحكم منذ تأسيس المملكة وحتى هذه اللحظة، لكنّ أسلوبه في الأداء كان يَقوم على المقاربة والموازنة في الإيقاع وطريقة الحكم، ليبدو معبرا عن رأي الشعب وأغلبية المواطنين، في حين يُحِيل تَبعاتِ أدائه السياسي والإداري إلى الجهات التنفيذية المختصة.
لكن في ظروف الربيع العربي والتحولات الجذرية الجارية في المنطقة كان المؤملُ من النظام، وعلى رأسه مؤسسة العرش، أن تظل في منأىً عن ملابسات الحكم وتفاصيله، وأن تَرُدّ ذلك للأردنيين بصورة حقيقة، عَبر عملية سياسية شفافة، تُجسد الصّيغة الدستورية القائلة: "الشعب مصدر السلطات"، والتي عُطلت طيلة السنوات الماضية، أو على الأقل أن يَظلّ على صُورته القديمة التي كانت مقبولة - نوعا ما - لدى قطاعات واسعة من الشعب.
المتابع للأحداث الجارية على ساحة الوطن، والمدقق في تَصريحات المسئولين، بما فيها تصريحات الملك، والتي كان آخرها ما جاء في مقابلته مع الصحفي الأمريكي تشارلي روز يدرك أن هناك ردّة حقيقية عن التوجهات الإصلاحية، وانقلابا على الوعود المقطوعة، بعد أن كانت النية تتجه - ولو صوريّا - بالاتجاه الموجب.
لقد ظهر بشكل صارخ أنّ العرش ينحاز لِذاته، وتَتجسد صُورته بوضوحٍ كطرف مُصادم للرغبة الصادقة بإجراء تَعديلات جَوهرية، تُرَمّم الأعطاب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي تُثقل كاهلَ الوطن والمواطن، لأنه قدّم رغباتِ المقربين المتضررين بالإصلاح، واعتمدَ الرواية الأمنية في ضبط إيقاع المرحلة القادمة, وهو يَجتهدُ في تجميل موقفه هذا، ويَحشدُ له المبررات، ويُسخِّر له إعلام الدولة ومُقدراتها.
هذه الخطوة غير مسبوقة؛ لأنها ولأول مرة تُظهر أنّ العرش لم يعد في موقعه المألوف، ولم يعد مُحايدا يُلملم أطراف الدولة بكل مكوناتها وتياراتها، بل انتقل ليكون طرفا في الأزمة، ويَنحاز للدائرة الضيقة مِن المستشارين والأمنيين والمقربين، مؤكدا مرة أخرى أنه لم يكن في تاريخه حياديا قطُّ ، لكن هذه الحقيقة باتت اليوم في أعلى درجات وضوحها لجميع أفراد الشعب الأردني بكل مستوياته الفكرية والاجتماعية.
خطورة هذه الحقيقة لا تأتي فقط من زاوية وُضوح مسؤولية العرش عن كل السياسات التنفيذية عَبر عشرِ السنوات الماضية، بل لأنها تأتي في ظرف دقيق، تَغيرت فيه المعطيات، وتَبدلت فيه قواعد اللعبة السياسية، ودَخلت الحَلبة قطاعات واسعة خاصة مِن المجتمع الشرق أردني - مع كُرهي لعملية الفرز، وعدم إيماني بها لا فكريّا ولا عَقَدِيّا ولا موضوعيّا - وهي قطاعات مُتشرِّبة بالوعي المبني على الحقائق لا على التَّخَرُّصات، والمثقلة بمشاعر الامتهان والتجاوز والتمييز والإقصاء.
دخول العرش في المشهد بهذا الوضوح أفقد المناخ السياسي توازنه واستقراره، ونقل عدوى عدم الثقة لِتُخَيِّم على كل مؤسسات النظام ورموزه، وأسّس مِن حيث يشعرُ أو لم يشعر لمرحلة بالغة الخطورة، في لحظة حساسة تموج بالمفاجآت التي تكون في خواتيمها لصالح الشعوب الطامحة لتأكيد دورها، على حساب النُّظم المتقوقعة حول ذاتها، والتي تُغمض عينها عن الحقيقة، وتَفتحها على أحلامها بالاستمرار في ضَبط خُيوط اللعبة حسب رُؤيتها وحساباتها.
مُشكلة النظام أنّه يعيش في حالة عُزلة عن نبض الشارع، ويَبني سياساته على تَقارير وهمية، وقراءات مغلوطة لطبيعة التحولات الجارية في الشارع الأردني والمنطقة، ويعمل على تهميشها وتسطيحها، والتقليل من شأنها، مع أنها عميقة وعميقة جدا في عقل ووجدان الفرد الأردني - ما بعد الربيع العربي- تُعيدُ بنائه وقَولبَته بصورة جذرية، تَجعل مِن الناصحين والمراهنين على أمكانية تَرويضه أو إنامتِه عن حقوقه يَرتكبون حماقة كبرى.
إن اختزال التدافعات الوطنية القائمة في صُورة خلاف محدود مع الحركة الإسلامية، تَحكمه مصالح القائمين عليها - صورة من صور تسطيح التحولات، وتجاهل الأزمة، مع أن الظروف التاريخية للحركة يُظهر أنها انطلقت منذ نشأتها لأبعاد فكرية دينية وطنية لا مصلحيه، وإن كانت هذه الصفة (المصلحية) لصيقة بجهات أخرى محورية ورئيسة غير الحركة الإسلامية.
إن إدارة الأزمة بهذا القدر من الاستهتار والمغامرة لا يُبشر بخير، فالحركة الإسلامية لم تعد اللاعب الوحيد على الساحة السياسية، ولن تكون مشجبا يُعَلِّقُ النظامُ عليه تَراجعه عن الإصلاح. كما أن محاولة الالتفاف على إرادة الشعب على حسابها لن تنجح، لأن هناك شبه أجماع لدى النخب المؤثرة في صناعة الوعي أنّ الجماعة لا تطلب قانونا على مقاسها كما يزعم الزاعمون، بل تُريد قانونا يُعبر عن الشعب بشكل حقيقي وموضوعي، ولو لم تحصل فيه على مقعد واحد ضمن انتخابات حرة ونزيهة.
المشكلة في الأردن ليست محصورة في قانون الانتخاب، ولا في التجاوزات الدستورية، ولا في الفساد والمال المنهوب، ولا..ولا.. وحدها ، وإنما في شكل النظام وآليات الحكم، وفي نفوذ قوى الشد العكسي، وقدرتها التوجيه والـتأثير، وفي العقلية المهيمنة على صنع القرار، وفي الحسابات المبنيِّة على الأماني لا حقيقة التحولات.
إصغاء صاحب العرش مطلوب، والمراجعة للسياسة والنهج مُلحّة، والحذر واجب، فالأخطاء الكبرى دائما تكون من الدائرة الضيقة والمقربة لأنها غالبا غير موضوعية، ومرهونة بالمصلحة الذاتية لا بالحقوق الوطنية الكبرى.