عشائرنا واللحظة الوطنية
د. بسام البطوش
شكلت عشائرنا معيناً لا ينضب من الوعي والانتماء، وساهمت في تمتين أواصر الاستقرار الاجتماعي والسياسي للوطن في أحلك الظروف وأصعبها. وسجل تاريخنا المعاصر لها وعيها الأصيل وقدرتها على تحديد خياراتها السياسية في اللحظة الوطنية والقومية الحرجة، فقد استشرفت المستقبل العربي الجديد، منذ ثورة الكرك 1910. وناصرت ثورة العرب الكبرى. وشكلت سلسلة المؤتمرات الوطنية في قم والسلط وأم قيس 1920 الإرهاصات الأولى لولادة الدولة الأردنية. وحملت العشائر مع الملك المؤسس أعباء التأسيس. وشكلت المؤتمرات الوطنية 1928-1933 درعا حاميا للوطن بما أفرزته من ميثاق وطني يؤكد الالتفاف حول القيادة الهاشمية،ومقاومة الانتداب والصهيونية.
انخرطت عشائرنا في مشروع بناء الدولة والدفاع عن خياراتها في اللحظات المفصلية. وأفادت من عملية التحديث وتحولاتها. وقدمت للدولة خيرة رجالاتها وكفاءاتها في مناحي الحياة كلها. لكن عمليات التحديث أفرزت مفاهيم وسياسات ونتائج جديدة، لم تلغ الروابط العشائرية، لكنها أفرزت تغيرا في مكانة الزعامات العشائرية ودورها،وأنتجت طبقة جديدة من أبناء العشائر تنافس الزعامات التقليدية، وتحاول الحلول مكانها.
وفي هذه اللحظة الوطنية الفارقة نجد دورا للعشائر في الحراك الاجتماعي والسياسي المتفاعل.عبر تأكيد التفافها حول القيادة الهاشمية،والتزامها بأمن الوطن واستقراره، واقتناعها بأن خطة وطنية للإصلاح الشامل ومكافحة الفساد باتت ضرورية، ضمن أجندة وطنية خالصة مخلصة للأردن الوطن والقيادة والهوية والمستقبل. وبطبيعة الحال لدى بعض العشائر في الأطراف مشكلاتها وقضاياها التنموية المزمنة والعالقة ،جرى التعبير عنها في هذه اللحظة ، وارتفعت الأصوات بمطالب عامة محقة اختلطت بأخرى شخصية أو تعجيزية أو لا تخلو من الاستقواء أو المس بهيبة الدولة في حالات محدودة أو معزولة. وظهرت في داخل بعض العشائر تجمعات شبابية تطالب بالإصلاح ومكافحة الفساد،وهي في بعض الحالات مرتبطة بشكل أو بآخر ببعض الأحزاب التي تحاول الاعتماد على تحركات بعض عناصرها في أوساط عشائرهم .
جرت محاولات رسمية وملكية ابتداء لتلبية المطالب العامة المحقة، وتحقق بعضها على أرض الواقع، وها نحن نجد جلالته يؤكدأن متابعة تنفيذ القسم الأكبر من المبادرات، التي أطلقها خلال زياراته إلى المحافظات ومضارب العشائر، هي مسؤولية الحكومة وعلى الوزارات المعنية متابعتها، ووجه جلالته الحكومة إلى البدء بتنفيذ مشاريع صندوق تنمية المحافظات،و إلى عقد بعض اجتماعات مجلس الوزراء في المحافظات. ودعا جلالته المسؤولين إلى العمل الميداني ومنح الإدارات في المحافظات صلاحيات تساعدها في حل المشكلات قبل تفاقمها. ووجه جلالته لوما لبعض المسؤولين العاجزين عن إتخاذ القرار. ونحن في الحقيقة نعاني من مسؤول يجهل الواقع ،أو متردد،أو جامد محنط خلف مكتبه ، يعجز عن مواجهة المشكلات وعن مقابلة الناس،مما يسمح بصناعة التوترات، التي سرعان ما يتراكض إليها الباحثون عن مأتم يلطمون فيه، فتنهال علينا آيات التعاطف مع هذه العشيرة أو تلك ، ولا يترددون في ممارسة التحريض وسكب الزيت على نار الفتنة.
التوجيهات الملكية الأخيرة للحكومة ينبغي أن ترى تطبيقا عمليا سريعا ومخلصا، لكن بعيدا عن الاسترضاء،والمقايضات. وعلى سبيل المثال هل لجنة دراسة مشكلة الواجهات العشائرية المشكلة قبل أشهر بحاجة لكل هذا الوقت لتفرج عن تصوراتها وحلولها ؟ وهل التوجيهات والمبادرات الملكية لتلبية مطالب العشائر والمحافظات والمناطق المحرومة بحاجة لكل هذا التردد والتأجيل؟ هل نحن بحاجة لجروح نازفة تفتح مجالا واسعا لدعاة الرفض وأصحاب الأصوات العالية والأجندات المتنوعة؟ يقيني أن عشائرنا الأبية لديها من الوعي ما يجعلها الأكثر حرصا على سلامة الدولة وهيبتها، والأكثر حرصا على الإصلاح ومكافحة الفساد ومحاكمة الفاسدين حتى من أبنائها.