زاد الاردن الاخباري -
عندما كنت يافعاً، كان شغلي الشاغل، إجراء البحوث والدراسات حول أنظمة الحكم، فكنت أدرس ماهيتها وتاريخها وأشكالها وأنواعها، وماهية الشعوب التي كانت تنضوي تحت كل منها، ومدى فاعليتها وتأثيرها في تلك الشعوب والحضارات والتجمعات الإنسانية، وكنت أعتقد وأحلم بـ "الديمقراطية الكاملة"؛ شأني شأن كل الذي يبحثون عن أكبر مساحة وفضاء من الحرية !
بعد ذلك، وعندما أصبحت صحفيا متمرساً، وفي ليلة من ليال عام 1996 زرت دولة عبد الرؤوف الروابدة (ابو عصام) في بيته مقابل جريدة الرأي، وكان ذلك بعد أن استقالت حكومة المرحوم زيد بن شاكر الثالثة، والتي كان (ابو عصام) يشغل فيها منصب نائب رئيس الوزراء، فوجدته وحده قبيل منتصف الليل يجلس بين مجموعة كبيرة من الأوراق، فقلت له: معقول معاليك.. هل لديك الوقت لتجلس بين الأوراق والكتب وتقرأ؟ فقال لي: (بالعكس أبحث في كل وقت فراغ لأقرأ وأتعلم، وإلا كيف نطرح أنفسنا كمعلمين إذا لم نكن نتعلم دائما؟) فسألته: وماذا تفعل ؟ فقال: (الآن أبحث في نماذج قوانين الإنتخاب حول العالم، وأحاول أن أفهمها وأستوعبها، علنا نقدر يوما أن نضع قانون إنتخاب عصري وحديث للأردن، يناسبنا ويناسب شعبنا وأمتنا).
الحقيقة أن دولة أبوعصام قد استفزني وعلمني أشياء كثيرة في تلك الليلة، كان درسا سياسيا اشتمل على دروس في البحث و المثابرة، والشعور بالمسؤولية تجاه الأمة، وكذلك أهمية أن تكون المثابرة في البحث لما هو مناسب للمجتمع والناس.
اتسعت دائرة البحث، فما الذي يناسب مجتمع قد انقسم إلى قسمين: عشائري ومدني، وينتسب إلى دينين: مسلم ومسيحي، ويستند على فكرين: إشتراكي ورأسمالي، وينتمي إلى مرجعيتين: قومية (عربية) ودينية (إسلامية)، وفيه طبقيتين، غنية وفقيرة، ويواجهه معضلتين : سياسية واقتصادية ؟
في السنوات العشر الأخيرة، أدركت أن نظام الملكية المطلقة لا يلائمنا، بسبب ما ترتب عليه من ظهور والتصاق النخب السياسية حول مؤسسة العرش، والذين يمنعون الدخول والإقتراب، ويعزلون الشعب عن مؤسسة الحكم، ولكني أيضا بدأت أتراجع عن فكرة الديمقراطية الكاملة، فالقسم العشائري يريد الإبقاء على المعادلة العشائرية بأية صورة، مع أن معظمهم لا يلتزم بها بشكل محكم، فيكون متعلما ويحمل شهادة الدكتوراة، وينتمي إلى حزب ما، ومع ذلك، فقبل الإنتخابات بشهور، تجده يخاطب ويخطب ود العشيرة أولا، ومع الخروج المتكرر للقسم العشائري عن منظومته في بعض الأحيان، إلا أنه ملتزم بها في العمل وفي الجامعات وفي الحياة الإجتماعية، سواء العشائرية الإيجابية أو السلبية، وكذلك الأمر بالنسبة للقسم المدني من المجتمع، فهم مختلفون، ويريدونها بألف صنف وشكل، لا يتفقون على رأي ولن يتفقوا يوما.
أثناء الربيع العربي، كنت متحمسا للإصلاح والتغيير، فتوقفت مرة أخرى، وحاولت تقديم نظرية حكم تسمى (الملكية الحرة) وهي منطقة وسطية بين الملكية المطلقة والملكية الدستورية الخالصة، يقوم خلالها زعيم الأغلبية البرلمانية بتشكيل الحكومة لمدة اربع سنوات، ويبقى لجلالة الملك قرار إقالته عند الضرورة الملحة، ولكني الآن، بدأت أعتقد أن ذلك غير ممكن أيضا، ليس للأسباب التي تعتقدونها، قد تكون ! ولكن السبب هو اعتقادي أننا لن نستقر يوما، وتتحسن أحوالنا، ونصبح قادرين على التغيير والإصلاح إذا لم نجد الطريق الذي يؤدي بنا إلينا !