مثّل اختيار جلالة الملك عبد الله الثاني دولة سمير الرفاعي لتأليف حكومة في فترة تحول اقتصادي عالمي، بارقة أمل جديدة لبعث عاملين لم يتضافرا معاً أبداً على أجندة حكومات متعاقبة وعنوانهما المغترب والاستثمار.
لعل العارف بشخصية الرفاعي والعالم بسيرته الذاتية الاقتصادية المنفتحة والديناميكية، سيجد الفرصة التي لا يمكن أن تتكرر في إمكانية توظيف عامليّ الاغتراب والاستثمار قد دنت من جديد، فلا بد أن تظهر خريطة طريق توظف الاستثمار أمام المغتربين غير القادرين على إيجاد بوتقة تحوي مدخراتهم، كما ينبغي لحكومته المراهنة على أولئك المغتربين في اصطحاب أفكار ومعارف فنية ورؤوس الأموال اكتسبوها بعيدا عن موطنهم، بما يفضي لبناء شكل جديد من أشكال الشراكة التي تأتي مع تبلور فرص وحقول جديدة نتجت عن انحسار آثار الأزمة العالمية وميل الاقتصاد العالمي للنهوض من كبوته من جديد عقب نكسة قوية غير أنها لم تكن طويلة.
كنا قد طالبنا خلال سنوات مضت وعبر منابر متعددة بأهمية تسجيل التفاتة حيال هذين العنصرين، إذ شكّل عدم التقائهما واحدة من اكبر خسائر الفرص البديلة التي زادت من تلك المصاعب التي تواجه الاقتصاد الوطني الباحث عن أفكار جديدة تقيه مزيداً من التحديات المرافقة لتفاقم العجز التجاري وتراجع الاستثمار الأجنبي المباشر، وعلى نقيض ذلك تحوي خزائن البنوك التقليدية والإسلامية وفراً وسيولة عالية غير موظفة و لا تزال متحفظة إزاء فتح قنوات التمويل بل عاجزة أيضا عن إيجاد نماذج جديدة مقنعة للاستثمار.
هذه المعادلة التي ترافقت مع الأزمة العالمية يجب أن تجد من يفك أسر ألغازها، فبدلا من استمرار حال الجمود والسلبية وغياب منهجية الابتكار، فإن على صانع القرار الاقتصادي أن يعمد إلى توجيه البنوك الوطنية - برفقة مؤسسات القطاع الخاص- لتسجيل نقلة نوعية على صعيد منهجية عملياتهما، بعيداً عن تلك التوصيات والمقررات غير القابلة للتطبيق.
لكن قبل هذا وذاك، دعونا نتساءل عن القطاعات التي ينبغي علينا وضعها على رأس أولوياتنا في عام يمني فيه الكثيرون النفس بتصفية رواسب وبقايا الأزمة العالمية، ليكون الجواب مرتبطاً بقطاعات إنتاجية محضة مرتبطة بتنمية حقيقية شاملة متصلة بالزراعة والغذاء والصناعات الدوائية والتعدينية، وهي التي يجب أن تستهوي البنوك التي بدت وكأنها متأذية أو مغالية في التحفظ من قطاعات خدمية لا تتمتع بالديمومة ولا ترفد الاقتصاد الوطني من حيث مقدار العمالة التي قد توظفها مقابل ما يمكن أن توفره تلك القطاعات الإنتاجية ذات القدرة على الإسهام في التخفيف من كاهل نسب البطالة التي تراوح فوق مستوى الخانتين.
وفي هذا الصدد دعوة مشتركة للحكومة والبنوك في آن معاً، إلى إحصاء السيولة المهدرة والقابعة في خزائن الودائع أو تلك الأموال التي يضطر المغترب لاستنفاذها بغية محاكاة مستوى إنفاق مجتمع الاغتراب الذي يعيش به، وهو ما يمثل هدراً لا يقل شأناً عن مساوئ الهدر الذي يوازي ضياع أي فرصة بديلة.
28 مليار دولار هي قيمة ودائع البنوك الأردنية حتى أكتوبر تشرين الأول الماضي والتي لم تتمكن من منح البنك أو المودع عائدا مقنعا يحاكي نسب التضخم وملاذات الاستثمار الإنتاجي، إلى جانب ما يضاهي 3 مليارات دولار حجم تحويلات المغتربين لذويهم لأغراض شراء العقار أو تغطية تكاليف التعليم والمعيشة، ولم يفكر أحد يوماً أن يعاد تدوير تلك السيولة قبل وصولها لطريقها التقليدية المباشرة المتمثلة في شأن استهلاكي.
نعتقد أن زوال بعض المسببات التي أرخت بظلالها السلبية على استقرار سوق العمالة الأردنية في الخارج من جهة، وبطلان حجة البنوك باستمرار انتهاج سياسة التحفظ غير المدروسة من جهة ثانية، يدعونا للتفكير في منهجية تصب في صالح الأطراف كلها.
ونقترح في هذا الصدد أن تعكف البنوك الوطنية بمشاركة الشركات ذات القدرات والخبرات الإنتاجية على تأسيس صناديق استثمارية قطاعية يمكن أن يجري الاكتتاب بها من قبل المغتربين والمقيمين، وأن يترافق ذلك مع وجود نشرة إصدار وخبراء لقياس التدفقات النقدية المحتملة فضلا عن جهد ترويجي يستهدف نحو 650 ألف أردني في الخارج يمنون النفس بمن يمتلك القدرة على إدارة دفة مدخراتهم، على أن لا يتم إغفال بناء منظومة مؤسسية لتلك الصناديق بإشراف من قبل شخصيات مشهود لها الجميع بالشفافية والنزاهة والقدرة على قراءة المستقبل الاقتصادي.
* أردني مقيم في الدوحة