ابتداءاً، بعض أهل اللغة قد يحتجون على عنوان المقال، وقد يقولون إن الأصل أن نقول: المرأة الأردنية \"محافظاً\" وليس \"محافظةً\" في معرض حديثنا عن إشغالها منصب المحافظ، ولكني انتصاراً لحق المرأة المهضوم في أن تتأنث اللغة عند الحديث عنها، أصر على استخدام كلمة \"محافظة\". وبينما يبرز منصب المحافظ في المجتمعات الديمقراطية منصباً سياسياً يكرّس شاغله حاكماً إدارياً فعلياً، لا يتولى إدارة شؤون محافظته وحسب، بل ويعمل أيضاً على تعبئة وتنسيق سائر الجهود الممكنة لوضع وتنفيذ السياسات والخطط والبرامج التي من شأنها النهوض بواقعها والسير بها على طريق المزيد من التنمية والتقدم، استقر المنصب في ذهنية المواطنين عندنا وكأنه مجرد منصب تنفيذي أقرب إلى الأمني، بحيث لا يفكر الناس فيه إلا كسلطة مهيبة يقصدها الناس للاقتصاص من بعضهم البعض، أو يجرجَرون إليها لتدفيعهم ثمناً قاسياً في العادة لانتهاك هذا القانون أو ذاك.
طالعتنا وسائل الإعلام مؤخراً بخبر تعيين إحدى السيدات محافظةً لمدينة جرش الأردنية، ربما كأول امرأة تتقلد مثل هذا المنصب، بعد أن سبق لشقيقاتها من الأردنيات تقلد مناصب كثيرة كانت حكراً على الرجال حتى عقود قليلة، كمنصب الوزارة أو القضاء أو السفارة ...الخ. ومع أن الوصف الوظيفي لعمل المحافظ محدد المعالم سلفاً، وهذا يقلص نسبياً من هامش الحركة المتاحة لشاغله، إلا أن ذلك لا يحول دون القول بتمتع المحافظ بقدر معتبر ومرن من القدرة على إضافة لمساته الشخصية على المنصب، وتحويله من مجرد مركز بيروقراطي لا يتعدى تنفيذ اللوائح والتعليمات، إلى موقع إداري خلاق مؤهل لبعث الروح في المحافظة وإنعاشها من شتى الجوانب.
لا أدري لم اقترن منصب المحافظ في ذهني بشخصية جان فال جان بطل رواية \"البؤساء\" الشهيرة، رائعة فيكتور هيغو، ربما لأنها إحدى الشخصيات التي جُسدت عبر الشاشة الفضية أكثر من مرة، ومثلت من ضمن ما مثلت أنموذجاً لمحافظ ناجح استطاع أن يحول بلدة صغيرة فقيرة إلى مدينة صناعية زاهرة، لكن المثال الواقعي الأبرز الذي قد يحضر في الذهن لمحافظ ناجح مقتدر ينصرف ولا شك إلى رجب أردوغان رئيس الوزراء التركي الحالي، الذي كان تميزه كمحافظ في تسيير شؤون مدينة إسطنبول والتحليق بها عالياً كواحدة من أجمل مدن العالم وأكثرها نظافة وتنظيماً، سبباً مهماً من أسباب تمكينه من الظفر بمقعد رئاسة الوزراء في تركيا فيما بعد.
إذن فمنصب المحافظ يحمل القابلية لأن يكون عملاً في منتهى الأهمية والحيوية والقدرة على التغيير والتطوير، وهو يحتاج فعلاً إلى شخصيات تتمتع برؤى نابضة بالحياة والتجديد والانفتاح والقدرة على الابتكار والمبادرة والتعمير، وليس إلى شخصيات جامدة قد يأتي تعيينها في أحوال كثيرة لمجرد الاسترضاء. ويكتسب ذلك المنصب أهمية إضافية، في حالة الأردن تحديداً، في ضوء ما نسمعه عن مشاريع الأقاليم واللامركزية التي يبدو أن العمل يجري جدياً من أجل تنفيذها؛ إذ تضع مثل تلك المشاريع على كاهل المحافظ الكثير من المسؤوليات والتبعات، وتفرض عليه أن يتحلى بالشجاعة للقفز عن الحدود الوظيفية الروتينية المرسومة له، وأن يوظف كل ما هو كامن فيه من ملكات واستعدادات ومهارات للنجاح في أداء مهمته المثقلة بالتحديات، وهذا يقودنا إلى الحديث عن المرأة ومدى قدرتها على النجاح في إشغال مثل ذلك الموقع وأمثاله.
أسوأ ما يمكن أن يحدث لامرأة تتولى منصباً \"رجولياً\"، أي جرى العرف على إشغاله من جانب الرجال، هو أن \"تسترجل\" وتحاول تقليد الرجال في كيفية إدارتهم للمنصب. والواقع إن هذا هو الخطأ الفادح الذي وقع فيه كثير من النساء اللواتي تقلدن مناصب غير مألوفة للنساء؛ إذ وجدناهن ـ بالرغم من النجاحات المهمة التي ارتبطت بأسمائهن ـ يتحولن إلى نماذج مخيفة بحق، تفرط في تبني أقسى وأعنف ما في الرجال من سمات، في محاولة بائسة لإثبات أنهن لا ينقصن عنهم في شيء، حتى وإن كان ذلك الشيء هو التزمت والتشدد. ولعل مارجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الشهيرة التي لقبت بالمرأة الحديدية من الأمثلة البارزة على شيء من ذلك، وإن كانت بكل تأكيد لا تشكل حالة استثنائية لم تتكرر.
في مقالة طريفة لا تخلو من جدية الطرح للمنظر الأمريكي الشهير فرانسيس فوكوياما، الذي اشتهر بأطروحته الخائبة حول نهاية التاريخ عند محطة النظام الرأسمالي الجامح، محاولة للجدال بأن العالم سيكون أفضل فيما لو أتيح للنساء فيه الفرصة لإدارة شؤونه. قد يكون ذلك الافتراض صحيحاً إلى حد ما إذا أردتم الحق، شريطة ألا ينزلقن إلى محاكاة الرجال، الذين أوصلت جهودهم الجبارة وقيادتهم الفذة عالمنا البائس إلى ما هو عليه من وضع كارثي مختنق ومأزوم. فالمرأة، بوجه عام، التي يؤكد الواقع أنها المسؤول الفعلي عن إدارة أمور كثير من الأسر وليس الرجل، تمتلك ولا شك من القدرات المختزنة ما يجعلها مؤهلة بالفعل لجعل عالمنا أفضل وأجمل وأنظف وأسلم؛ إذا ما أحسنت استغلال حدسها الأنثوي ومواهبها الأمومية التي حباها بها الله، ومن لا يصدق، فلينظر إلى حال بيت يخلو من امرأة، ولينظر أيضاً إلى كمية الدفء الذي تتمتع به أسرة تحظى بأم حكيمة طيبة.
كما نجحت المرأة الأردنية كوزيرة وكشرطية وكطيارة وكنائبة ـ النائبة بمعنى تمثيل الشعب وليس المصيبة ـ أرجح أن تنجح كمحافظة، إن لم يكن لتميز قدراتها، فلأن على المسكينة أن تعمل المستحيل كي تنجح ما دامت لا تتمتع بترف الوقوع في الفشل دون كثير من المساءلة كما هو حال الرجل؛ إذ تتوجه كل الأنظار إليها منذ اللحظة الأولى لتقلدها المنصب متوقعة ومنتظرة، وربما متأملة، فشلها، ولكن حتى تنجح المرأة، عليها أن لا تنسى لحظة أنها امرأة، وأن لا تتورط باستعارة عقلية الرجل وتصلبه وتكشيرته.
د. خالد سليمان
sulimankhy@gmail.com