زاد الاردن الاخباري -
أثناء تدريس مادة التحليل السياسي، في معهد واشنطن الدولي، كانت واحدة من المواد التي أتوقف عندها هي تحليل السياسات الخارجية والداخلية، وكنت أرجو دائما أن يفهم الطالب كيف يستند على المؤشرات والملامح والقراءات والتغييرات والتصريحات التي يمكن إلتقاطها حول دولة ما لفهم طبيعة السياسة التي تنتهجها بشكل مؤقت أو دائم، وبناء عليه يستطع المحلل السياسي معرفة فيما إذا كانت تلك الدولة تتبنى سياسة سلام مثلا أو سياسة إحتواء أو سياسة تصعيد أو تتجه نحو سياسة الحرب ..الخ.
منذ عشرين عاما وأنا أراقب واحلل سياسة الدولة الأردنية وأحاول معرفة ما نوع السياسة التي تتبناها داخليا وخارجيا، وفي السنوات الثلاث الأخيرة، بدأت أدقق وأقرأ واحلل المواقف والنصوص والأزمات والنتائج التي تتمخض عنها ما كنت أعتبره سياسة الدولة، وتحديدا منذ حكومة الرفاعي ، البخيت ، الخصاونة وأخيرا وليس آخرا حكومة "الطراونة".
خارجيا، لا يمكن إعتبار التحالف مع أمريكا والصداقة الفاترة مع اوروبا والسلام المجزوء مع إسرائيل سياسة، لأنها كلها عمليا مفروضة علينا، وحتى نكون أكثر وضوحا فنحن لا نستطيع تغييرها، بالنسبة لباقي دول العالم، فلم أجد، خلال العشرين عاما، والسنوات الثلاث الأخيرة تحديدا، أي ملامح لأي سياسة فعلية عميقة وواضحة أو مؤشرات ودلائل مع أي دولة كالصين، روسيا، تركيا، إيران، الهند، استراليا، البرازيل،.. الخ، أما الدول العربية، فسياستنا هي "بناء" علاقات طيبة مع الخليج، وهذا البناء لم يضع حتى حجر الأساس، فليس هناك إهتمام حقيقي بحجم تلك العلاقات ومستواها وتفاصيلها، ثم سياسة مشوهة ومتقلبة مع العراق، تائهة مع سورية واليمن، محدودة وغامضة مع لبنان، ومتبدلة وضعيفة بدون ملامح مع مصر، أما باقي الدول العربية الأفريقية فلا يمكن القول أبدا أن لدينا سياسة ما معينة مع أي منها !
داخليا، لدينا مقترحات طوارىء عديمة الجدوى وغير مدروسة النتائج، وبالتالي فليس لدينا سياسات محلية واضحة ومباشرة، بالطبع يمكن تحميل مشكلة تبديل الحكومات الأسباب كلها، ويمكن أيضا ربطها مع غياب رؤية إقتصادية صارمة ضمن جدول زمني لا يتبدل ولا يتغير، فنحن لا نمتلك مخططا إقتصاديا عاما "إيكونوميك ماستر بلان"، وبالتالي تدهورت الأوضاع الإقتصادية للدولة والمتمثلة في الدين العام والعجز في الميزانية وكذلك تدهورت الأوضاع الإقتصادية للمواطنين، فوقعوا في فخ غلاء المعيشة وارتفاع الضرائب وتدني الرواتب، وحاصرتهم البطالة والفقر من كل جانب وتلاشت الطبقة الوسطى تماما، كذلك سيطرت العقلية المتشددة والحرس القديم على مفاصل الدولة وتشبثوا فيها ومنعوا دخول الأفكار الجديدة والجريئة والذي ساهم بشكل كبير في ضياع العدالة الإجتماعية وساهم في ضرب ميزان تكافؤ الفرص ودفع به إلى إحداثيات مؤلمة، فأصبح وضع سياسة عامة متطلبا ضخما للدولة الأردنية يصعب جمع اطرافه، خاصة في ظل تصاعد مكانة المستشارين وأصحاب الرؤى القديمة ومهندسي الإقتراحات والتوصيات العقيمة، الذين يأكلون بعضهم بعضا وهم لا يعلمون أنهم يأكلون لحم هذا الوطن، فمثلا عاشت الدولة سنة كاملة على توصيات وإقتراحات طاهر المصري ولجنة حواره، ثم تلاشت كل تلك الأفكار وراحت تحرق بعضها بعضا.
لست أدري كيف سيقول لي أحدهم أن لدينا سياسة ونحن يوما نوزع العصير على المعتصمين وفي اليوم التالي نهاجمهم وفي الثالث نعتقلهم وفي الرابع نضع السياج عليهم ! وكيف لدينا سياسة داخلية وما زالت العائلات التي تحكم الأردن منذ تسعين عاما هي هي دون أي تغيير ! كذلك فكيف يكون لدينا سياسة داخلية ومجموعات من الشباب "العاطلين عن العمل" الذي لا يشاهدون تغييرا واحدا لصالحهم ولا يجدون عملا يخرجون في مسيرات وإعتصامات طالبت يوم اول امس الجمعة، وللأسف الشديد جدا، بإسقاط النظام؟
سيقول أحدهم، غير صحيح : فلدينا سياسة توريث المناصب، ولدينا سياسة أن لا يكون لدينا سياسة !
الذي يريد أن يتحدث فلسياعد في إنارة شمعة لرؤية الطريق، أو فليضع يدا بيضاء تخرج بالحلول التي تجعل منا أفضل ومن بلدنا الأفضل.