ليس هناك أجمل من حديث القلب للقلب وبعيدا عن بهرجة الخطابات واستخدام المعسول من الكلام ولي الحنك ومحاولة إخراج الحروف بلهجة أهل المدينة وهن بنات قرى وما تزال إمهاتهن يلبسن المدركه ويشدن الرأس بالشماغ ويتخصرن بالشداد وتطريزة إيديهن على كبة الثوب تقول أن اليد التي تعمل بارك الله بها ، وعندما يبلغن من العمر عتيا ويصبحن من القواعد اللواتي لايحق لأحد أن يحدد لهن ما يردن وما يفعلن وبعد أن " يقبرن " الأزواج تصبح حياتهن منصبة على الصلاة والعبادة ومشاهدة قناة ناشيونال جيوغرافيك ومتابعة قصص بقية النسوة ممن شاركهن كبر العمر و" قبر " الرجال .
تقول أمي هذه الايام جميلة تحمل في طياتها الكثير من تجارب الزمن بعد ما يزيد عن ثمانون عاما قضت نصفها في أبو ديس والنصف الأخر في الزرقاء ، وتملك من ذاكرتها فقط الجزء المتعلق بايام زمان وفترة زمنية بعيدة جدا وهذه هي حال من يبلغ من العمر عتيا وتصبح الايام الحالية بالنسبة له مجرد ارقام وتواريخ لاتستحق أن يذكر منها شيء ويطلب من ذاكرته أن تشطبها ولاتبقي منه سوى أقل من ساعة أو ساعتين للتذكر ، والسياسة بالنسبة لها هي مجرد حكايات تذكرها بأول راديو يدخل للبلدة ويوضع في قهوة قسطل عند مسجد البلد وهو مسجد من ايام صلاح الدين الإيوبي وإن اختلفت الروايات عليه ولكن ما يذكر بقوة أنه قد تم بناءه من جديد من قبل رجال البلدة في ليلة واحدة وتمت إقامة صلاة العشاء فيه لتثبيت مكانه كمسجد للبلدة ، والسياسة عند أمي سواليف حصيدة لاتنتهي ويتم المزاودة عليها وفيها من باب تسليك الوقت بالنسبة للكبار أما الصغار فهم من يأكلونها حامية كما تقول أمي عندما ترغب في معرفة ما يدور حولها في دول العرب .
وحماتي وهي تصغر أمي سنوات تمتلك شغفا قويا في " شمة الهوى " بعد أن " قبرت " زوجها وفي نفس الوقت لاتوفر وقت إلا وتقضيه في دروس الدين ومحاولة فك الحرف العربي وتعلم القراءة بعد أن رفض جدي " هي خالتي " أن تذهب للمدرسة مع بقية بنات القرية وما تزال تقول " انا لااسامحه على ذلك " مع انها تحبه وتدعو له دائما بالرحمة والمغفرة ، وحماتي تشاهد القنوات الفلسطينية من باب أنها تحاول معرفة ما يدور " غربا " ولكنها تؤكد لمن يستمع لها أن قصة غربه وشرقا هي من فعل اليهود لأنها ما تزال تذكر وبكثير من الحب أنها كانت تخرج من البلدة صباحا وتكون في الزرقاء قبل صلاة الظهر ، وحماتي تعيد كلامها في السياسة كثيرا واكثر ما يثيرها ما تبثه تلك القنوات من شخصيات نسوية " فارعات " وهن يتحدثن عن الوطن وهن لايميزن بين الحشمة وقلة الأدب " كما تقول " وتعيد سبب فشلنا في استعادة الوطن لأن مثل تلك النسوة وهؤلاء الرجال " انصاف النساء " هم من يتحكمون في قضية الوطن ويتجارون بها .
وأجمل ما في أمي وحماتي عندما تدور بينهن معركة إثبات من يملك الذاكرة الأقوى أو من كان يمثل عند جدي " يوسف عند ابيه " ، وهنا ترفع الاقلام وتجف الصحف وتصبح جميع محاولاتنا لتهدئة الأمور كمحاولات اخراج أخر حبة زيتون من المطربان ولكن بالشوكة ، وتنتهي المعركة بأن يتم الفصل بينهن بفتح باب جديد للحوار ويفضل أن يكون في ذكر الأزواج لأنه عندها تتوقف المعركة وتبدأ معركتهن الذاتية مع التاريخ وقصة الزوج الذي ذهب بعد أن عجزت أقدامهن عن السير وعجزن هن عن إعلان العصيان المدني عليهم في لحظة قوة لديهن ، وتقول أمي في نهاية الموقف أن رحيل أبي وزوج خالتي كان رحمة لهم كرجال لأن الرجل بعد وفاة زوجته يهان ويصبح ضعيف ولكن الزوجة تعيش وبقوة ولايمثل فقدانها لزوجها بعد عشرة أكثر من خمسين عامل أي فرق بل تصبح وكما تقول أمي " غزال مطوطح ذنبته " وشمية هواء قطيفة ورد ، وبجملة عبارة مني نتيجة لمحالاوتي إيقاف معركة أمي مع حماتي وقصة " غزال مطوطح ذنبه " قلت لهم أن هناك خليجية طلبت سيارة بلون طلاء اظافرها وممكن ثمن السيارة يتجاوز الربع مليون دينار فما كان من أمي وحماتي أن أتفقتا على جملة واحدة تقول " بخت المعفنات بالحفنات " .