زاد الاردن الاخباري -
في سياق التعدين في جمهورية الكونغو الديمقراطية يرتبط اسم رجل الأعمال دان غيرتلر ارتباطا تكامليا مع التوغل الإسرائيلي في الشأن الأفريقي.
يبرز غيرتلر ذو الـ50 عاما كشخصية محورية في قضية استغلال موارد الكونغو الديمقراطية والسيطرة عليها، كما تُفيد تقارير مشتركة من صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، و"أفريكا-ريبورت" مرورا بـ"بلومبيرغ" الأميركية.
عائلة غيرتلر: نفوذ وتأثير
دان غيرتلر هو حفيد موشيه شنيتزر الشخصية البارزة التي كانت من المؤسسين لبورصة الألماس الإسرائيلية في 1947، والحاصل على "جائزة إسرائيل في عام 2004".
نشأ دان غيرتلر في عائلة كانت لها تقاليد راسخة في مجال تلميع الألماس وتسويقه، واكتسب خبرة في هذا المجال من والده وجده.
انطلاقًا من موروث عائلي متجذر في استغلال معدن الألماس في القارة الأفريقية إبان الحقبة الاستعمارية، أخذ دان غيرتلر يرسم مساره متتبعا خطى أسلافه.
بعد خدمته الإلزامية لمدة 3 سنوات في الجيش الإسرائيلي، أسس غيرتلر متجره الخاص لتجارة الألماس، واتجه وعمره 23 عاما إلى جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي كانت تعيش حينها دوامة من الاضطرابات والنزاعات الدموية.
في تلك الفترة المضطربة، كان لوران ديزريه كابيلا قائد المتمردين في أمس الحاجة إلى المال والسلاح لشن هجومه على العاصمة كينشاسا، فتمكن غيرتلر بدهاء من توفير دعم بمبلغ 20 مليون دولار للتمرد.
مع صعود كابيلا إلى السلطة، استثمر غيرتلر علاقته الوثيقة معه لتعزيز نفوذه، مما منحه إمكانية الحصول على حقوق استخراج المعادن بأسعار تفضيلية، بعيدًا عن معايير السوق العالمية. وفي المقابل، تعهد غيرتلر بضمان الدعم الدولي لنظام كابيلا من الدول الغربية.
إثر اغتيال لوران كابيلا في يناير/كانون الثاني 2001، تسلم السلطة ابنه جوزيف كابيلا. واستغل غيرتلر هذا التحول لصالحه، مستفيدًا من نقص خبرة الرئيس الشاب في المجال السياسي، وعمل على ترسيخ مصالحه.
في خضم الشكوك والجدل المحيط بمقتل لوران وتولي نجله جوزيف السلطة، قام الأخير بتفويض غيرتلر للتفاوض مع الولايات المتحدة بهدف كسب دعمها ودعم المجتمع الدولي ضد خصومه.
قطاع التعدين
يعدّ قطاع التعدين ركنًا أساسيًا في اقتصاد الكونغو الديمقراطية، حيث أسهم بنحو 55% من إجمالي الإيرادات في عام 2017، ومثّل 99% من إجمالي الصادرات الوطنية عام 2023.
واستطاع غيرتلر خلال الفترة الطويلة التي حكم فيها جوزيف كابيلا الفوز بعقود ضخمة ومشبوهة لتصدير الألماس والذهب والنفط والكوبالت ومعادن نفيسة أخرى.
نتيجة ما سبق، نجح غيرتلر في ترسيخ مكانته كرجل أعمال بارز وملياردير في الميدان الأوسع للتعدين حول العالم، مؤسسًا مجموعة "دان غيرتلر العالمية" (DGI).
ولم يشتهر في مجال التعدين بنشاطه المكثف في قطاعات الألماس والنحاس فحسب، بل توسّع في استثماراته لتغطي مجالات أخرى كخام الحديد والذهب والكوبالت والنفط، بالإضافة إلى القطاع الزراعي والمصرفي.
وبذلك، أنشأ غيرتلر ثروته التي تقدرها "فوربس" بنحو 2 مليار دولار 2023، مستفيدا من علاقاته مع أطراف متورطة أحيانا في جرائم حرب.
تقاطع غيرتلر والسياسة الإسرائيلية
في يونيو/حزيران 2022 أجرى الصحفي مارتن بلوت المتخصص في شؤون القرن الأفريقي وجنوب أفريقيا تحقيقا استقصائيا دقيقا كشف عن شخصيات نافذة كانت تعمل ضمن نطاق الحكومة الإسرائيلية تحت قيادة بنيامين نتنياهو، وقدمت العون لغيرتلر، ومن بين هؤلاء، يبرز اسم يوسي كوهين الذي شغل سابقا منصب مدير الموساد.
لقد قام كوهين بـ3 زيارات إلى الكونغو الديمقراطية عام 2019، بهدف التوسط لصالح غيرتلر لدى الرئيس جوزيف كابيلا وضمان استمرار امتيازاته مع خلفه الرئيس فيليكس تشيسيكيدي.
وفقا لبلوت، يؤكد المقربون من غيرتلر وكذلك من كوهين أن جميع تحركاتهم كانت تصب في مصلحة الدولة الإسرائيلية.
لكن زيارات كوهين الـ3 إلى واحدة من أكثر الدول فسادا في القارة الأفريقية قد أثارت تساؤلات عديدة عن مدى تورط الحكومة الإسرائيلية مع غيرتلر في نشاطاته المشبوهة، خاصة في مجالات التحكم بالمعادن الثمينة.
يتكشف الغموض حين النظر انطلاقًا من المكانة المتميزة التي تتبوؤها إسرائيل في الفضاء الصناعي العالمي، ومع إدراك الأهمية المحورية لمعادن كالكوبالت والليثيوم والكولتان في رسم معالم التفوق التقني، كانت الحاجة الماسة للحكومة الإسرائيلية لضمان استمرارية وأمان استثمارات دان غيرتلر في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتشكل هذه المعادن العمود الفقري لصناعات حيوية متعددة كتلك المتعلقة ببطاريات السيارات الكهربائية، والموصلات، وتكنولوجيا الشرائح الإلكترونية المتطورة، وكذلك في صناعة الهواتف الذكية والحواسيب، ناهيك عن دورها الجوهري في القطاع العسكري الإسرائيلي.
ساحة إستراتيجية
في 2018، وفقا لبيانات مؤسسة "حلول التجارة العالمية المتكاملة" (World Integrated Trade Solution)، استوردت إسرائيل منتجات كوبالت متنوعة من الكونغو الديمقراطية تضمنت: الكوبالت، الخردة، والبودرة.
وتعتبر الكونغو الديمقراطية الرافد الأساسي لهذه المعادن، حيث تسهم بنحو 70% من الإنتاج العالمي للكوبالت و80% من الكولتان، مما يجعلها ساحة ذات أهمية إستراتيجية لا يستهان بها.
وتحرص إسرائيل بجانب سعيها لاستغلال هذه الموارد في قطاعاتها الصناعية، على تعزيز وجودها الاقتصادي والسياسي في هذا الجزء الحيوي من القارة الأفريقية.
وفي سياق متصل، تتعدى إسرائيل مجرد الانخراط في الأنشطة الاستثمارية التقليدية بجانب رجال أعمالها، إذ تُظهر تورطها العسكري في حماية هذه المصالح بالكونغو من خلال تقديم الدعم للفصائل المسلحة التي تضمن الحفاظ على مصالحها.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023، ألمحت تقارير صحفية أفريقية إلى أن إسرائيل قد أعادت انتشار جنودها العاملين سرا في الكونغو للمشاركة في العمليات العسكرية البرية في غزة، مما يسلط الضوء على التداخل العميق بين الأهداف الاقتصادية والعسكرية والاستخباراتية لإسرائيل في القارة الأفريقية.
غيرتلر وتحقيقات الفساد
على مدار السنين، ارتبط اسم غيرتلر بادعاءات الفساد المتكررة. وفي مايو/أيار 2013، كشف تقرير أصدره كوفي أنان الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، عن الخسائر الفادحة التي تكبدتها الكونغو الديمقراطية جراء تعاملاتها مع شركات غيرتلر الخارجية، مما ألقى الضوء لأول مرة على حجم هذه الخسائر الهائلة.
أوضح التقرير أن صفقات غيرتلر لـ5 امتيازات مهمة في مجال النحاس والكوبالت أدت إلى خسارة تقدر بحوالي 1.36 مليار دولار للخزينة العامة.
وفي عام 2017، اتخذت وزارة الخزانة الأميركية قرارا بتطبيق عقوبات ضد غيرتلر استنادا إلى قانون ماغنيتسكي، الذي يمنحها السلطة لتجميد الأصول الخاصة بالأفراد المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان أو في أنشطة فساد.
وصرحت الوزارة أن غيرتلر تمكن من جمع ثروة هائلة من خلال عقود ملتبسة في قطاعي التعدين والنفط، تقدر بمئات الملايين من الدولارات في الكونغو، مستغلا علاقته القوية مع الرئيس الكونغولي حينها جوزيف كابيلا.
وفي العام اللاحق، توسع نطاق العقوبات المفروضة عليه على خلفية حصوله على تراخيص تعدين بأسعار منخفضة من الحكومة الكونغولية ومن الشركات الحكومية، ومن ثم إعادة بيعها لشركاء دوليين بأرباح طائلة.
كما شملت الدعوى اتهامات غيرتلر وشركاته بتمويل مليشيات متمردة والاستيلاء على مدفوعات كانت من المفترض أن تعود للدولة ومؤسساتها الرسمية.
ترخيص سري
في مطلع عام 2021، وخلال الأيام الأخيرة من إدارة دونالد ترامب، حصل غيرتلر على ترخيص سري يمتد لمدة عام يعفيه من العقوبات، بعد جهود مكثفة من اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة.
ومع ذلك، واجه هذا القرار اعتراضًا شديدًا من جانب النشطاء المعنيين بمكافحة الفساد وأعضاء في الكونغرس الأميركي، مما أدى إلى إلغائه من قبل إدارة الرئيس جو بايدن في مارس/آذار 2021.
وبالنظر إلى الموقع الرئيسي الذي يشغله غيرتلر في تعزيز النفوذ الإسرائيلي في القارة الأفريقية، خاصةً في مجال السيطرة على المعادن الثمينة والإستراتيجية، كان لزامًا أن يتلقى الدعم من شخصية إسرائيلية أخرى مؤثرة، وهو رون ديرمر، السفير السابق لإسرائيل في الولايات المتحدة.
وقد أكد ديرمر على أهمية "العلاقات الإقليمية ذات الصلة بالمصالح الإسرائيلية" كسبب رئيسي وراء محاولاته لإزالة غيرتلر من قائمة العقوبات الأميركية.
يُعتبر ديرمر وكوهين من بين أقرب المساعدين وأكثرهم ثقة لدى نتنياهو، حيث كانا ينفذان مهمات سرية بأمر من حكومته، وقد وصفهما نتنياهو في مناسبات عدة كخلفاء محتملين له.
وبمعزلٍ عن تهم الفساد، وفي مسعى لنيل رضا حكومة الرئيس تشيسيكيدي، أطلق غيرتلر في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، مبادرة مالية تحت مسمى "يابيسو"، وادعى أنه سيقوم بتقاسم جزء من عوائده من مشروع "ميتالكول" للكوبالت مع الشعب الكونغولي.
تعرض هذا المخطط لانتقادات لاذعة لعرضه مَنْح ما كان يجب أن يكون أصولًا للدولة. ومع ذلك، ظل غيرتلر يرفض بشدة الاتهامات الموجهة ضده نافيًا ممارسته أعمالا غير قانونية، ومُصرًا على مساهمته في إحداث نقلة استثمارية كبرى في جمهورية الكونغو الديمقراطية.
لكن تحقيقات مالية أُعلن عنها عام 2021 من قبل تحالف "الكونغو ليست للبيع" المناهض للفساد، يدحض ادعاءاته حيث كشفت التحقيقات أن جمهورية الكونغو الديمقراطية تكبدت خسائر تزيد عن 3.71 مليارات دولار أميركي نتيجة لصفقات التعدين والنفط المشبوهة مع دان غيرتلر، مستفيدا من علاقته المتينة مع جوزيف كابيلا، الذي حكم الكونغو من 2001 حتى 2019، وعمله كوسيط في أبرز صفقات التعدين في البلاد.
معضلة كبرى
في الآونة الأخيرة، أصبح غيرتلر معضلة كبرى لحكومة الكونغو، حيث يؤثر سلبا على تجارة الألماس المستخدم في النزاعات المحلية. وتواجه محاولات الحكومة لتحرير تجارة الألماس من سيطرته تهديدات بالمقاضاة من شركته بوصفه يمتلك عقد استغلال حصري لتلك المناجم.
هذا مع عدم الإغفال أنه في 9 فبراير/شباط 2024 ، نشرت صحيفة هآرتس تقريرًا مفاده أن دان غيرتلر استطاع التهرب من العقوبات الأميركية المفروضة عليه والتي كانت تمثل الأمل الأخير في كبح جماح استغلاله للكونغو.
ويكشف التقرير عن كيفية إخفائه لمنجم نحاس وكوبالت تُقدر قيمته بحوالي 1.5 مليار دولار، متجاوزًا بذلك القيود المفروضة عليه.
هذا الكشف دفع جموعا من المراقبين للتعليق على خبر التحايل بالقول إن الولايات المتحدة ليست جادة في حربها ضد الفساد، خاصة فيما يتعلق بالأعمال التجارية لرجل الأعمال الإسرائيلي.
ووفق هؤلاء المراقبين فإن الضجة التي رافقت محاكمة غيرتلر ليست سوى تكتيك أميركي يهدف لاحتواء الانفعالات ضد شركات غيرتلر من ناحية، والتغاضي عن الاستغلال الإسرائيلي للثروات في أفريقيا من ناحية أخرى، نظرًا لأن النفوذ الإسرائيلي في أفريقيا يعتبر امتدادًا للنفوذ الأميركي.
وتبدو جهة النظر هذه منطقية جدا، فأنشطة رجل الأعمال الذي يخدم مصالح إسرائيل ونفوذها في أفريقيا تتسق مع النفوذ الأميركي من منظور العلاقات الدولية والجيوسياسية.
السلطة الفرعية للإمبراطورية
هذا الترابط بين مصالح أميركا وإسرائيل، تناوله الأستاذ بجامعة نيو ساوث ويلز بأستراليا كلينتون فرنانديز في كتابه "السلطة الفرعية للإمبراطورية".
يقول فرنانديز الذي سبق أن حمل رتبة ضابط في الاستخبارات الأسترالية إن دولا مثل أستراليا وإسرائيل والمملكة المتحدة ليست دولًا تابعة أو عميلة بقدر ما هي أعوان للإمبراطورية الأميركية، تساعد في الحفاظ على نفوذها في مناطقهم الخاصة.
يشير فرنانديز إلى أن "الجيوبوليتيك" لأميركا وأعوانها يتميز بعدوانية شديدة، مدفوعًا أساسًا بالطبقة المالية والنخب الثرية التي تملك تأثيرًا كبيرًا على الدولة، وهو ما يتضح في العديد من الأمثلة التاريخية. فعلى سبيل المثال، استعمار ونهب الهند بدأ من قبل شركة الهند الشرقية قبل أن تتدخل الدولة البريطانية لتنظيم عملية الاستعمار. وفي حالة الحرب في العراق، كان الدافع وراء الحرب يخدم مصالح شركات النفط الأميركية أكثر من الأمن القومي الأميركي.
ويعتبر فرنانديز أن الهدف الأساس للنظام الدولي الأميركي هو إنشاء نظام عالمي يسمح بالاختراق والسيطرة من قبل الطبقات المالية الوطنية، مما يجعل الهيمنة هدفا أساسيا يأتي على حساب الأمن.
وهذا يفسر لماذا يتم التغاضي عن استغلال دول مثل إسرائيل ورجال أعمالها للشعوب المتضررة من النهب في الكونغو الديمقراطية وغيرها، حيث يخدم ذلك الهيمنة الإمبراطورية الأميركية. وبالتالي يتماشى هذا مع نمط التفكير الليبرالي في جمع الثروة، وهو ما يوضح لماذا قضايا مثل العقوبات المفروضة على غيرتلر قد تكون مجرد ذر للرماد في العيون.
ختامًا، هناك اعتقادٌ قوي يهيمن على الأوساط الأكاديمية أن دان غيرتلر يمثل أحد النماذج البارزة لكيفية استغلال إسرائيل لرجال الأعمال كأدوات لتعزيز نفوذها الجيوسياسي في القارة الأفريقية، مكرسًا سياسة الاختراق والتغلغل فيها.
ومن اللافت للانتباه غياب مظهر ملموس يدل على وجود نية حقيقية أو توجه جاد لكبح جماح غيرتلر أو وضع حد لأعماله التي تلاحقها تهم الفساد سواء على المستوى المحلي في الكونغو الديمقراطية أو على الصعيد الإقليمي والدولي. مما يعكس التأثير والتداعيات السلبية لهذا النوع من السياسات على الاستقرار الاقتصادي في القارة السمراء.