تحالف الظل وصناعة النخب في المشهد السياسي الأردني ثمة ما هو أعمق من المعارضة الظاهرة وأشد تأثيراً من الولاءات التقليدية.
إنه ما يمكن تسميته بـ "تحالف الظل" بين ما يُعرف بالتيار الثالث والحرس القديم تحالف غير مُعلن لكنه فعّال ومؤثر، ويمثل معضلة حقيقية في مسيرة الإصلاح السياسي والاجتماعيالتيار الثالث كما أُشير إليه مراراً، ليس تنظيماً مؤسسياً، بل هو حالة عقلية وانتهازية بنيوية، تتغذى على الفجوات وتعيش على الأزمات.
أما الحرس القديم، فهو مجموعة من النخب السياسية والإدارية التي تشكلت منذ عقود في رحم الدولة العميقة، وتربّت في مؤسسات الحكم، وعاشت حقبة الامتيازات المركزية التي شكّلت طبيعة الدولة الأردنية في مرحلة ما بعد التأسيس والاستقرار
من هم الحرس القديم؟
الحرس القديم هم أولئك الذين احتلوا مواقع القرار على مدى عقود طويلة. تشكّل وعيهم السياسي في ظل ثقافة الولاء الكامل للنظام مقابل النفوذ والمصالح.
لهم سطوة عميقة داخل مؤسسات الدولة، سواء كانت سياسية أو أمنية أو اقتصادية أو حتى إعلامية.
إنهم ليسوا ضد الدولة، بل هم الدولة العميقة كما يُقال، لكنهم ضد التغيير الحقيقي، لأنهم يدركون أن أي إصلاح جوهري يعني المساس المباشر بمصالحهم وهيمنتهم
قال عبد الرحمن الكواكبي في طبائع الاستبداد:
"ما من مستبدٍ سياسي إلا ويتخذ له صفة قدسية يشارك بها الله أو يتستر بها عليه، ويُعينه على هذا الخداع طائفة من الناس أُوتوا ذكاءً ولم يُرزقوا فضيلة"
وهذه الطائفة هي ما يمكن تسميته اليوم بالحرس القديم والتيار الثالث معًا .
تماهٍ استراتيجي لا تكتيكي
الخطير في العلاقة بين الحرس القديم والتيار الثالث أنها ليست علاقة لحظية، بل علاقة تماهٍ استراتيجي.
كلا الطرفين يتقاطعان في الهدف، وهو الحفاظ على الأمر القائم واحتكار أدوات التأثيرو كلاهما لا يرغب بإصلاح حقيقي، ولا بتجديد الطبقة السياسية، وكلاهما يُفضّل بقاء المواطن في حالة من عدم اليقين والشك والتردد، لأن في ذلك استمراراً لهيمنتهم على المشهد
التيار الثالث يزرع الشك في نوايا الدولة ويحرّض الرأي العام ضدها، ولكن ليس بهدف التغيير، بل بهدف أن يصبح هو البديل أو الوسيط .
أما الحرس القديم، فهو من يملك أدوات تعطيل التغيير من الداخل، تحت ذرائع "الاستقرار"، أو "الخصوصية الأردنية"، أو "عدم جاهزية الشارع"، وهي خطابات ظاهرها عقلاني، وباطنها خوف من زوال الهيمنة .
بين مدح بلا مضمون وإرادة ملكية للإصلاح
وفي خضم هذا التماهي بين الانتهازية السياسية ونفوذ النخب التقليدية، يبرز موقف جلالة الملك عبد الله الثاني بشكلٍ مغاير وجلي. فقد قال جلالته في مناسبات متعددة
"لست ممن يهوى المديح أو يسعى إليه، فعملي هو الرد الوحيد على أي ثناء، وما أريده هو نتائج لا شعارات "
إن هذا التصريح وغيره من المواقف يؤكد أن جلالة الملك يُدرك تمامًا خطورة الخطاب الذي يُغدق المديح بلا مضمون، ويفضّل عليه العمل والتنمية والإنتاجية الحقيقية ،
لذلك، فإن من يعتقد أن الإفراط في الثناء وسيلة للبقاء أو الاستمرار، فهو لا يخدع إلا نفسه لأن رأس الدولة يعلن بوضوح أن معيار الولاء هو خدمة الناس، وتحقيق النمو، وحماية مصالح الدولة لا حماية مصالح نخبوية خاصة .
إنتاج الشك والتشويش بما يشتت فكر المواطن و
النتيجة أن المواطن الأردني يجد نفسه في متاهة بين خطاب رسمي فقد مصداقيته، وخطاب شعبوي يُغذّي الغضب ولا يقدم بديلاً حقيقيًا. في ظل غياب النخب الإصلاحية القادرة على كسر هذا الثنائي المأزوم ، تتعزز فجوة الثقة، وتتعمق أزمة الانتماء .
قال نعوم تشومسكي :
" أخطر ما تفعله الأنظمة غير الديمقراطية أنها تُفرغ المفاهيم من مضامينها، فتصبح الديمقراطية شكلاً دون روح، والحرية شعارًا دون ممارسة "
وهذا بالضبط ما يحدث حين يحتكر الحرس القديم أدوات السلطة، ويحتكر التيار الثالث أدوات الخطاب .
مستقبل بلا تغيير حقيقي
ما يُخيف في هذا التماهي أن النظام يجد نفسه محاطًا بطبقة من الممانعين الذين لا يُظهرون العداء، بل الولاء الشكلي، والذين يُعطّلون أي محاولة للانفتاح أو الإصلاح بذريعة الحفاظ على الاستقرار لكنهم في الحقيقة يحافظون على مواقعهم الخاصة، وهم بذلك يحاصرون الدولة من الداخل، ويخدعونها في آنٍ واحد .
ولعل أخطر ما يمكن أن يُواجه أي نظام سياسي هو أن يتحوّل ولاء بعض نخبته إلى ولاء انتهازي مؤقت، مرتبط بالامتياز لا بالقيم.
وهنا تتقاطع مصالح التيار الثالث مع الحرس القديم في ساحة واحدة: ساحة إفشال الإصلاح، وتمديد عمر الأزمة .
وجه التحدي اليوم ليس فقط في مواجهة معارضة خارجية، بل في تفكيك هذا التحالف غير المقدس بين الانتهازية السياسية ومراكز النفوذ التقليدية.
التحدي هو استرداد القرار الوطني من أيدي من يحتكرونه، لا باسم المعارضة، بل باسم الولاء المزيف .
وكما قال ابن خلدون :
"إذا رأيت الناس تُكثر من المدح في الحاكم فاعلم أن الدولة في طور الانحدار"
فالمديح المبالغ فيه من بعض أطياف الحرس القديم، هو ستار للخوف من فقدان الامتيازات، وهو ذاته ما يُغذي خطاب التيار الثالث: المديح حينًا، والتشكيك حينًا آخر، والهدف واحد .
إذا أردنا مستقبلاً مختلفًا، فعلينا تفكيك بنية هذا التيار الثالث، ومعه الحرس القديم، وإعادة بناء ثقة حقيقية بين الدولة والمجتمع، على أساس الشفافية والمشاركة، لا على أساس الخوف والمصلحة .