بقلم: عاطف أبوحجر - - كانت تلك اللحظة، في بداية شبابي، بداية قصة حب غير تقليدية، لا تُنسى، قصة مع عطر الغجرية ولمسة يدها التي لا يمكن أن تمحيها الأيام.
كان ذلك اليوم عاديًا، مثل أي يوم آخر في العمل، حين تلقيت اتصالًا من أحد أصدقائي، يخبرني أن ابنة أحد زبائن مكتبتهم ترغب في استخراج معاملة من الدائرة التي أعمل بها. بعد نصف ساعة، كنت أقف على شباك مكتبي المطل على الشارع، في انتظار وصولها. وفي تلك اللحظة، حدث ما لم أكن أتوقعه.
رأيتها تقترب، بخطوات واثقة، وكانت جميلة جدًا. بشرتها بيضاء كالقمر، وشعرها ينساب كخيوط الذهب تحت ضوء الشمس. كانت ترتدي قميصًا مشجرًا بألوان فيروزية و"تنورة غجرية، تبدو كأجنحة الفراشات الملونة بألوان قوس قزح، تتراقص مع الرياح وكأنها تحمل سحرًا لا ينتهي." وجهها كان مستديرًا، كالأزهار الربيعية، وعينها الخضراء كانت تلمع مثل النجوم. ثم ابتسمت لي، ابتسامة كالحلم، شفافة، تحمل سرًا عميقًا.
نظرت إليَّ بنظرة لا توصف، وكأنها تزرع شرارة الحب الأولى في قلبي، شرارة أضاءت دربًا كنت أجهله. فجأة، شعر قلبي كما لو كان ينبض بنبضات الطبل العسكري، ومع كل دقة، كان الكون كله يختفي. كنت أشعر بشيء لا أستطيع وصفه، مزيج من السحر والدهشة.
قالت بصوتها الرقيق: "مرحبًا، هل الأستاذ عاطف موجود؟" ولكنني، وبكل أسف، لم أستطع الرد. تحول لساني إلى حجر، وأنا أسمع صوتها، أجمل صوت يمكن أن يسمعه الإنسان. دخلت، وجلست على المقعد كملكة، وأخذت المعاملة التي جاءت من أجلها. وعندما خرجت، مدت يدها لأول مرة نحوي، ولمست يدي بحركة عفوية، ليحدث ما لم أتوقعه. كانت تلك اللمسة هي بداية الحب، لحظة التقاء الأرواح.
لم يكن هناك شيء في العالم سوى تلك اللمسة، وعطرها الذي غمرني، وكأن رائحته لم تذهب أبدًا من حولي. كانت لحظة سحرية، لا يمكن نسيانها.
مرت الأيام، ومع مرور الوقت، بدأنا نلتقي بشكل منتظم. كنا نذهب إلى أماكن هادئة بين الأشجار والزهور، حيث نفطر معًا، وفي الشتاء نلجأ إلى نار الموقد. كنا نتبادل الضحكات، والكلمات الجميلة، وتبقى لحظاتنا معًا في قلبي كما لو كانت أمس. ثم جاء اليوم الذي كانت فيه المفاجأة الأكبر، حيث طلبت مني "اَغْمِضْ عَيْنَيَّ" وأعد إلى 100 تحت شجرة. وعندما عدت، رأيتها ترتدي فستان زفاف أبيض. كان ذلك حلمًا تحقق، وكان قلبي يطير من الفرح.
لكن لم تكن أيامنا خالية من الوعود والأحلام التي كنا نبنيها معًا. في تلك الأيام، لم تكن الهواتف الخلوية كما هي اليوم. كنا نعيش لحظاتنا عبر الهاتف الأرضي. كنا نتحدث لساعات طويلة، نتبادل الحديث عن المستقبل، وعن الأحلام والطموحات. كنا نتخيل كيف ستعيش أجمل قصة حب، وكيف سننظم حفل زفافنا، وأين سنسكن، وما هي الحياة التي نريد أن نبنيها معًا. كنا نتحدث عن الأطفال الذين سننجبهم، وكان لنا دور كبير في اختيار أسمائهم. أنا اخترت أسماء الأولاد، وهي اختارت أسماء البنات. كانت تلك الأحلام التي لا تنتهي، وكأن الزمن يقف لكي نستمتع بها.
كانت علاقتنا حبًا بريئًا، خاليًا من الخيانة والكذب والمصالح، كما نرى في كثير من القصص. كانت هي بنتًا نشمية وأصيلة، تحمل في قلبها كل معاني الطيبة والنقاء. كنت أنا، في المقابل، حبيبًا صادقًا، مخلصًا، أمينًا. كان خوفي عليها يتجاوز خوفي على نفسي، شعرت أن بيننا علاقة قرب غير تقليدية، كما لو كانت روحًا واحدة. كانت علاقتنا مليئة بالصدق، وبالأماني التي لا تنتهي، وحبٍ نبيل لا يعرف الزيف.
كانت الأيام تمضي، وكل يوم كان يحمل معه لحظة جديدة من الحب والذكريات. كنا نذهب إلى كافيهات جبل الحسين والشميساني، نزور حديقة الطيور، وفي أحد الأيام هربنا من حرارة الشمس ودخلنا مستشفى الشميساني لنستمتع بالتكييف. وفي المصعد، حدث أول عناق بيننا، وكان كما لو أن العالم كله توقف، وتوقف الزمن في تلك اللحظة.
ثم فجأة، وفي لحظة غير متوقعة، سافرت دون أن تترك وراءها كلمة وداع. لا أعرف السبب حتى اليوم. لكن تلك الذكريات التي تركتها لي لا تزال في قلبي، كما لو أنها جزء من روحي.
كانت هي حبي الأول والأخير، كانت هناك أحداث وحكايات كثيرة بيننا، بعضها محفور في الذاكرة بشكل لا يمحى. أتذكر الأيام التي كنا نذهب فيها إلى الحدائق في منطقة وادي صقرة والتلفريك، حيث كان المكان مليئًا بالهدوء والجمال الطبيعي. في تلك اللحظات، كنت أطلب من صديقي الفنان أمجد الخياط أن يغني لنا أغنية "حبيبتي" لعبادي الجوهر على العود، فتنتقل بنا الألحان إلى عالم آخر من الأحلام.
وأتذكر يومًا آخر، عندما ذهبت معي لشراء الهايه من صيدلية في منطقة صويلح. كانت تلك اللحظات البسيطة تحمل سحرًا خاصًا في تفاصيلها. كما لا أستطيع أن أنسى ذلك اليوم الذي أطعمتي فيه سندويشة الحمام المحشوة بالمقدوس والفلافل وأنا أقود السيارة بين الدوارين السابع والثامن، حيث كانت الأمطار تتساقط بغزارة على الأرض، بينما كانت أغنية "من غير ليه" بصوت هاني شاكر تُذاع عبر الراديو بالصدفة، فتُضفي على اللحظة جوًا من الحنين والدفء.
ثم جاء ذلك اليوم الذي أحضرت لي فيه هدية بمناسبة عيد ميلادي؛ كانت بنطلونًا وقميصًا وحزامًا. وعندما رأيت الهدية، قلت لها مازحًا: "حدا بجيب هدية بنطلون أخضر وقميص كموني؟!"، فما كان منها إلا أن قالت ضاحكة: "يا... هذا لون بترولي مش أخضر، وهذا لون بيج بار!" كان حديثها عفويًا، وكان ضحكنا يملأ المكان.
أتذكر أيضًا يومًا آخر، عندما ذهبنا لأول مرة إلى مقهى الفاروقي في الشميساني. طلبت كابتشينو، وطلبت هي مثلي، ثم غمرتني الذكريات وأنا أشاهد كيف تغمس شنبها العريض باللون الأبيض في أول شفة من فنجان الكابتشينو. "وتعالت ضحكتها الموسيقية، تطرب سمعي بعبيرها الخاص، بعد أن تغطس شنبي في رغبة الكابتشينو، وكأنها تُسافر بي إلى عالم آخر، حيث كل لحظة تُعزف على أوتار السعادة." كانت تلك اللحظات تُشعرك بأنك عشتَ حياة كاملة في تلك اللحظة.
هناك الكثير من اللحظات والمواقف التي لا أريد أن أذكرها جميعًا، لكنها تبقى محفورة في القلب كقصيدة حب وصدق، لن تُنسى أبدًا. أيتها الغجرية، التي تركت في قلبي عطرًا لا يُنسى ولمسة يد لا تذهب. ربما كانت تلك هي قصتنا، قصة حب قصيرة لكنها عميقة، تظل حية في قلبي رغم مرور السنين.