عندما نتحدث عن الدبلوماسية الأردنية فلا نقصد حصرياً أيمن الصفدي، وزير الخارجية، وإن كان له دور كبير ومهم ومحوري في ذلك، لكن الدبلوماسية مرتبطة بعملية صنع القرار في السياسة الخارجية، التي تبدأ بالملك، وتشمل القيادات العليا سياسياً وأمنياً وعسكرياً واقتصادياً، نظراً لتشابك الملفات المختلفة وترابطها مع بعضها، بخاصة أنّ من عمل مع الملك في العديد من المواقع والمراكز يعرف تماماً أنّه يؤمن بنظرية «عمل الفريق»، فالقرارات تؤخذ ضمن «مجلس السياسات الوطني» NPC أو مجلس الأمن القومي NCC عبر الحوار والنقاش المعمّق من قبل أعضاء المجلس أو حتى من يتم استدعاؤهم بحسب طبيعة الموضوع والقضية المطروحة على المجلس.
قبل أيام قليلة كان هنالك اجتماع على درجة كبيرة في عمان لوزراء خارجية دول جوار سورية (الأردن وتركيا ولبنان والعراق وسورية نفسها) وحضر الاجتماع مدراء الأجهزة الأمنية في هذه الدول ورؤساء هيئات الأركان، وتمّ خلاله طرح التحديات التي تواجه سورية وكيفية العمل الداخلي والإقليمي على حماية وحدة الأراضي السورية ورفض التوغل الإسرائيلي الخطير وأجندة بنيامين نتنياهو ومتطرفيه في تقسيم سورية وتجزئتها.
النشاط الدبلوماسي الأردني تجاه سورية مدهش في حجمه وسرعته في التعامل مع متغيرات الحالة السورية، وفي المرونة والفعّالية الأردنية في تخطي العديد من الحواجز والأطر التقليدية وصولاً إلى تحقيق مصلحة سورية التي تتزاوج مع المصلحة الوطنية الأردنية، التي تمّ تعريفها بصورة مبكرة، بعد انهيار النظام السابق مباشرة، بأنّها تتمثل بوحدة الأراضي السورية والأمن والاستقرار هناك، وإنهاء حرب المخدرات في الشمال، والعودة الطوعية للاجئين السوريين وتهيئة البيئة المناسبة لذلك، وممانعة الأجندة الإسرائيلية الخطيرة والأمن المائي والتعاون الاقتصادي مع نظام صديق للأردن في دمشق، فمثل هذا التعريف والتأطير للمصالح العليا سهّل منذ البداية على وزير الخارجية القيام بالتعامل مع التطورات والمتغيرات المختلفة الكبيرة، ولولا وجود اتفاق ضمن مراكز القرار على هذه الملفات الرئيسية لما تمكّنا من اتخاذ خطوات جريئة وفعالة.
مما يعزز الدور الإقليمي الأردني أنّه مبني على حوار وتواصل وتشاركية بين مؤسسات الدولة المختلفة المعنية، وهو الأمر الذي أصبحنا نراه في اجتماعات عمان الأخيرة، وقبلها في زيارة الصفدي إلى تركيا مع مدير المخابرات العامة ورئيس هيئة الأركان ولقاء أقرانهم الأتراك، ثم الرئيس رجب طيب أردوغان، بل ومشاركة ولي العهد في هذه الجهود الدبلوماسية بصورة لافتة خلال الفترة الأخيرة من خلال زياراته لكل من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وكلها مؤشرات على وجود فريق عمل وتفكير استراتيجي في دوائر القرار في التعامل مع المتغيرات والتحولات الإقليمية الخطيرة.
بالطبع يبقى الملف الفلسطيني محورياً، والدور الذي قامت به الدبلوماسية الأردنية في الحرب على غزة كان مشهوداً وعالمياً ومتفوقاً، وحظي بإعجاب عدد كبير من النخب السياسية في العالم وفي المنطقة العربية، وحتى في فلسطين نفسها، وتجلّت المهارة والخبرة الدبلوماسية الأردنية في لقاء الملك بترامب، الذي بات بمثابة نموذجاً يدرس على الذكاء والحكمة في مثل هذه المواقف الدبلوماسية والإعلامية المحرجة.
هنالك تحديات كبيرة لا تزال أمام الأردن، بخاصة خلال المرحلة القادمة وملف الضفة الغربية المشتعل، لكن من المهم أن نرصد هنا حجم الانتقال الكبير والكفاءة الدبلوماسية الأردنية في التعامل مع الانقلابات الدولية والإقليمية والتحديات للمصالح الوطنية وللأمن القومي، وإعادة الأردن لصياغة دوره الإقليمي بهدوء بما يتوافق مع المصالح الوطنية من جهة والمتغيرات المحيطة من جهةٍ أخرى.
وإذا كانت هذه الإنجازات المهمة تسجل للدولة وللنظام السياسي ولفريق مطبخ القرار، ولمنهجية الملك في إدارة السياسة الخارجية بدرجة أولى، فإنّه من الضروري أن نقدم تحية احترام وتقدير لوزير الخارجية أيمن الصفدي، الذي ترجم هذه السياسات بكفاءة عالية، وعمل بجدّ واجتهاد وأصبح أحد أبرز الشخصيات السياسية المخضرمة في المنطقة ومرجعية لكثير من وزراء الخارجية الغربيين والعرب، وكرّس فكرة العمل الإقليمي العربي المشترك بصورة كبيرة، وكان له دور كبير في مواجهة الحرب الإسرائيلية على غزة وفي النشاط الدبلوماسي الأردني والعربي تجاه سورية، ووظّف قدراته الفكرية والسياسية والكارزما الشخصية لتحقيق المصالح الوطنية الأردنية والاستقرار الإقليمي، فالأعوام الأخيرة والتحديات الصعبة كشفت عن عملاق في أروقة الدبلوماسية والسياسة الأردنية..