بينما كنت في إحدى الدوائر الرسمية لإنهاء معاملة ما، شهدت مشهدًا بسيطًا لكنه عميق في دلالته؛ ارتفع صوت بعض الموظفات في جدالٍ حاد، حتى بدا أن الأمر قد يتحول إلى فوضى؛ فجأة تدخل أحد زملائهن بنبرة ودودة وحازمة_ بلهجة بدوية _قائلاً: "قلين الحس يا بنات!"، ليعيد بذلك الهدوء إلى المكان، رغم بساطة العبارة، كان لها وقع جميل في نفسي، فقد حملت دعوة للهدوء وضبط النفس وسط صخب لا مبرر له.
وجدتني أعود إلى هذه الجملة وأفكر في مدى حاجة العالم اليوم إلى مثل هذا المبدأ. "قلي الحس" ليس مجرد طلب لخفض الأصوات، بل هو نداء للصمت الذي يحمل في طياته حكمة وتأملًا. نحن نعيش في عالم يعج بالأصوات العالية، حيث يغلب الجدل على الحوار، ويطغى الضجيج على التفكير الهادئ.
فماذا لو قررنا جميعًا أن نصمت قليلاً؟
الصمت ليس حالة سلبية، بل هو قوة نحتاجها لإعادة ترتيب الفوضى من حولنا. في السياسة، نرى زعماء العالم يخوضون صراعات كلامية بدلًا من البحث عن حلول واقعية للأزمات. في الإعلام، تنتشر الضوضاء على حساب الحقيقة. وحتى في حياتنا اليومية، نعجز أحيانًا عن الصمت للاستماع إلى الآخرين، مما يعمق الفجوات بدلًا من تقليصها.
إن الدعوة إلى "قلي الحس" ليست انسحابًا أو هروبًا، بل هي وسيلة لإفساح المجال للتفكير والتأمل. حين نتوقف عن الصراخ، نصبح أكثر قدرة على الاستماع. وحين نصغي، نبدأ بفهم أنفسنا والآخرين بشكل أعمق. العالم يحتاج إلى هذا النوع من الصمت، ليس فقط في المواقف اليومية، بل على المستوى الجماعي. حاجتنا إلى الصمت ليست مجرد حاجة فردية، بل ضرورة لإعادة بناء المجتمعات على أسس من الحكمة والتفاهم.
ذلك المشهد البسيط في الدائرة الرسمية كان تذكيرًا بمدى تأثير الكلمة الواحدة. عندما طلب الموظف من زميلاته أن "يقلن الحس"، لم يكن يطلب أكثر من فرصة لتنظيم الفوضى واستعادة الهدوء. العبارة التي أطلقها بعفوية هي في جوهرها دعوة يمكن أن تتجاوز حدود اللحظة والمكان لتصبح مبدأ حياتيًا. العالم بحاجة لأن "يقلي الحس"، لأن في الصمت حكمة، وفي الهدوء سلام، وفي التأمل بداية لكل تغيير إيجابي.
#روشان_الكايد
#محامي_كاتب_وباحث_سياسي