ما أجمل أن تُختتم حياةُ إنسانٍ وقد أدى رسالته بإيمانٍ صادق تجاه ربه وأهله ووطنه .. فمنذ صحوت في طفولتي كان والدي رحمه الله جنديا في الخطوط الأمامية الأولى في الضفة الغربية في مواجهة حرس الحدود الاسرائيليين قُبالة القدس ورام الله ونابلس وقلقيلية وغيرها من المناطق والمدن الفلسطينية .. وقد شاءت العناية الالهية أن ينجو لعدة مراتٍ من صليات الرصاص الفجائية التي كان يطلقها العساكر اليهود نحو النقاط الاردنية المتقدمة التي كان يرابط فيها مع رفاقه في السلاح .. وبعد ان أنهى خدمته التطوعية في الحرس الوطني التحق بالأمن العام لعدة سنوات فخدم في مطلع الخمسينات في عهد ثلاثة ملوك هاشميين عبدالله الاول وطلال والحسين طيب الله ثراهم .. ولا زلت احتفظ في ذاكرتي بعض القصص الرائعة التي كان يرويها عن شجاعة وحكمة الملوك الثلاثة خلال عمليات تفقدهم للقطاعات العسكرية الصامدة في مواجهة الاحتلال .. ثم انتقل في أواخر الخمسينات لدائرة الجمارك حيث عمل في مراكزها المختلفة في محافظتي العاصمة والبلقاء ولواء الرمثا لأكثر من ثلاثين عاما .. ولم أذكر في حياتي أنه تلقى هدية لقاء فزعاته وخدماته للمواطنين الأردنيين والفلسطينيين في المراكز الجمركية الحدودية وغير الحدودية المنتشرة على امتداد مساحة الوطن .. فكنا نراه مبتهجاً عند عودته للبيت لمساعدته لمواطنين في مراكز عمله .. كان دخله الشهري رحمه الله محصورا فقط براتبه المعدود بالقرش والدينار ، واذا طرأت زيادة على فاتورة المياه إختلت معادلة الراتب فيكون التعويض عن ذلك بتقنين بعض المشتريات البيتية الخاصة بالمستلزمات المعيشية الضرورية .
وفي حرب حزيران 1967 التي ألحقت أكبر نكسة للأمة العربية كان يتمنى لو بقي جندياً ليؤدي واجبه في الدفاع عن الاردن وفلسطين ، حيث عايش بتوتر شديد وقائع ومجريات تلك الحرب لحظة بلحظة ، وأذكر أنه يوم السابع من حزيران أي ثالث أيام الحرب قام بدفن شهداء الجيش العراقي بنفسه في مقبرة الجادور بعد أن تعرّضت قافلتهم العسكرية المتوجهة الى الضفة الغربية لغارة جوية في وادي شعيب ، كما قدّم بيته في السلط مجانا كقاعدة للفدائيين عقب معركة الكرامة الخالدة ، وأسكن فيه الرئيس ياسر عرفات ورفاقه لنحو سنتين مجاناً ، وحينما التقيت ابا عمار رحمه الله في مكتبه برام الله عام 2004 سرد لي الكثير من ذكرياته في السلط ومع الوالد بالذات وحمّلني سلاما له ودعوة مفتوحة له لزيارته في مقره بالمقاطعة برام الله .
وهكذا أمضى والدي رحمه الله سبعة وثمانين عاماً من عمره طاهر القلب وعفيف النفس ونقي اليد وملتزماً بقراءة القرآن ومؤديا للفرائض الخمس .. فعمل لآخرته بطاعة ربه ووالديه ، كما عمل لدنياه في عمل الخير وإصلاح ذات البين ، حتى اعتاد أهل السلط والبلقاء على حضوره الدائم في العطوات والجاهات ومختلف المناسبات .
وفي سنواته الأخيرة كان يتألم لعدم مقدرته على مشاركة الأقرباء والأصدقاء في أفراحهم وأتراحهم بعد أن أقعده المرض ولزم الفراش ، لكنه حرص على متابعة أخبارهم من خلال زواره كحرصه أيضا على متابعة الأخبار السياسية من خلال المذياع الذي لازمه ولم يفارقه لحظة واحدة ، وأكثر ما كان يؤلمه الاقتتال بين الأشقاء العرب والمواجهات الأهلية في البلدان العربية ، حيث يزعجه كثيراً أن يُقتل عربي بسلاحٍ عربي ... وبمناسبة ذكرى مرور سبعة أعوام على وفاة والدي الحاج عبدالفتاح محمود الوشاح التي تصادف يوم السابع والعشرين من شهر تشرين أول ، لا يسعنا إلاّ أن نقرأ الفاتحة على روحه الطاهرة وندعو له بالرحمة والمغفرة ، سائلين الله عزّ وجلّ أن يرحمه ووالدتي ، ويغفر لهما ويسكنهما جنات النعيم وينزل على قبريهما الضياء والنور والفسحة والسرور ويتغمدهما بواسع رحمته – آمين – يا رب العالمين .