ذكرت في الحلقتين الخامسة والتاسعة عشرة من مغامرات صحفي أني قمتُ خلال عام ألفين وأربعة وبتكليف من التلفزيون الأردني بمهمة تغطية الإنتفاضة الفلسطينية في الأراضي المحتلة ، وعندما وصلتُ مقرّ إقامتي في رام الله توجهتُ حسب التعليمات الى مدينة القدس لإستخراج بطاقة صحفية من مركز الإعلام الاسرائيلي لتسهيل عملية التنقل ، وبعد إنتهاء مهمتي الصحفية في الاراضي المحتلة التي إستمرت شهرين يتعيّن عليّ تسليم تلك البطاقة للمركز لأخذ إشعار موجه لإدارة الجسور يسمح بعودتي الى الأردن ، فقبل يوم واحد من العودة الى عمان توجهتُ بتكسي أجرة من رام الله الى المركز الاعلامي في القدس ، وهناك فوجئتُ باختلاف المعاملة داخل المركز بعكس المراجعة الأولى ، فحينما دخلتُ المبنى من البوابة الرئيسية وأعطيتُ إسمي للحارس الإسرائيلي إقتادني الى غرفة إنتظار صغيرة وبقيتُ جالسا فيها على مقعد خشبي لأكثر من ثلاث ساعات حتى أحسستُ أني معتقل ، وكلما أومأتُ الى الحارس للإستفسار عن موضوعي يأمرني مع نظرة حاقدة بالجلوس وعدم الحركة ، وبدأتُ ألاحظ مغادرة الموظفين والموظفات مع إقتراب موعد نهاية الدوام ، وهنا أدركتُ أني أقضي فترة إعتقال قسرية ، كما أصبحتُ منقطعا عن العالم الخارجي بعد حجز هاتفي النقال عند الاستعلامات ، وبحلول الساعة الثالثة عصرا تمّ تحويلي الى إحدى الغرف في الطابق الثاني ، وجلستُ أمام موظف يتحدث العربية جيدا ، وسألني عن سبب تجاوزي في تغطياتي الإخبارية عن السقف المسموح به وقال : لقد بالغت كثيرا في تهويل الأحداث حتى وصفت ردّ الجنود الاسرائيليين على رماة الحجارة بأنه عمل جرمي وهم لم يفعلوا أكثر من الدفاع عن النفس لجعل الطرق أمامهم سالكة من غير إغلاقات بالحجارة واشعال إطارات ، كما أن تقاريرك يا محمد كانت مشحونة بالعداء والكراهية لدولة اسرائيل ، فكنت تعمل وبوتيرة عالية على تحريض الشباب الفلسطينيين لتحدي الجيش الاسرائيلي بكل الوسائل المتاحة ، ثم عرض المحقق الاسرائيلي أمامي شريطا مسجلا لأحد تقاريري على التلفزيون الاردني ، فقلتُ له أنتم عند المواجهات كنتم تعمدون الى توسيع المعركة من خلال إحضاركم للمزيد من الآليات العسكرية وإستفزاز الشبان الفلسطينيين بالرد عليهم بالقنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي والحي أحيانا ، وبقي الحوار بيننا هادئا في البداية حتى زاد غضب المحقق عندما قلتُ له ، أنسيتم انكم محتلون لأراضي الفلسطينيين وبلدانهم ومن حقهم مقاومتكم حتى تخرجوا من أوطانهم ، فاستشاط غضبا وقال لولا انك مكلّف بطريقة رسمية من قبل التلفزيون الأردني لأودعتك السجن حالا ، لكن خذ ورقتك وغادر البلاد غدا صباحا ، فقلت له ساغادر لكنّي كصحفي سأكشف مستقبلا المزيد من الحقائق ، فأمرني بالوقوف وأمسكني من كتفي ونادى حارسه وطلب منه بالعبرية أن يخرجني من المبنى ، فبقي الحارس ضاغطا على يدي حتى خرجتُ من البوابة الرئيسية حيث أقفلها من خلفي بشكل سريع كادت أن تصيبني ، فوقعت مشادّة قوية مع الحارس من جديد وتردد حينها بضربي ، وفي هذه اللحظة تذكرتُ ذاك الصحفي الفلسطيني الذي قال لي يوما ترى سيد وشاح اليهود بصراحة مستائين من تغطيتك للأحداث ومن اسلوبك العنيف .
إنني أعتقد أني لو بقيت في الضفة الغربية لعدة أيام فسيكون مصيري إحدى الاثنتين إما السجن أو الشهادة لأن الاسرائيليين لم تُعجبهم أصلا تغطيتي من البداية لمجريات الإنتفاضة الفلسطينية ، وهذا ما دفع المرحوم ياسر عرفات لإستدعائي في الليلة الأخيرة الى مكتبه برام الله حيث قدّم لي الشكر على جهودي الاعلامية في الأراضي الفلسطينية وأثنى على مغامراتي في تغطية المواجهات مع الجيش الاسرائيلي .