ولإن الإسم الذي يلي إسمي مباشرةً كان ضابطاً في الجيش العربي ثلاثين عاماً.. ولأني أرى في عيون أبي جميع الجُند وأرى في جميع الجُند أبي.. ولأنني أعرف آمان اللّه كله كيف يحط في أحضان أبي وهو يرتدي بدلته العسكرية إذ ما عانقته.. ولأنني عشت الحياة العسكرية مع أبي مُنذ خُلقت.. ولأني أعرف ما مَعنى أنا أعتاد غياب أبي سنة في ساحل العاج وسنة في أرتيريا وأشهر طوال في الجو يخدم في الآمن والحماية وما مَعنى أن يصاب أبي بالملاريا منذ عام 2008 وما مَعنى أن يذهب لموته الذي أخافه كلما عادت الجرثومة ذاتها لجسده.. وأعرف كم مغلوب على أمره الجندي منا كيف يبيع روحه ليعيش أهله.. ولأني أعرف ما معنى الدهشة التي أصابتني في أول مرة علّق فيها والدي الشريطة الحمراء على بدلته.. وما مَعنى حكايا الجيش جميعها التي كان يرويها لنا.. ومعَنى أن يقول والدي حينما ودع جيشه: أن الجيش هو الذي صنعه وأنه اليوم لشاكر له.
ولأني أعرف كيف كنت أصافح رفاق والدي بكل الرتب فيترك أحدهم نجمة أو تاج داخل كفي ويبتسم لي: أن صار اليوم والدك عميداً فأبتسم إبتسامة فخورة أن نَعم والدي اليوم عميداً قضى سنين عمره عسكرياً وسيموت عسكرياً..
ولأني أعرفُ تماماً فرحهم إذا ما إرتفعوا درجة أو رتبة وأعرف دمعة الحزن التي تسيل غصباً عنهم فيواروها عنا حينما يتركوا صفوفه..
ولأني أعرف إنتظار والدي وهو ينام في مخدعه العسكري.. ولأني أرى والدي في صوره حينما كان ملازماً فأقبّل الصورة وأعرف والدي اليوم رجلاً يغزو الشيب رأسه عميداً ودع الجيش بكل حب أخذت الخارطة المعلقة في عنقي وقبلتها وتمتمت بلا دراية صباحاً حينما قرأت خبر طير شهدائنا لمنازلهم الفردوسية بجانب وصفي وهزاع: تعيش وتحيا عربي..