لا شك بان الديمقراطية التركية قد وصلت مرحلة متقدمة ، وأن الارادة الشعبية التركية صار يحق لها أن تُترجَم على أرض الواقع وتفرض نفسها على الحياة العامة في تركيا ، من خلال انتخابات تشريعية لا مجال فيها للغمز واللمز كما الانتخابات العربية الشكلية ، ففي ثاني انتخابات تشريعية تشهدها تركيا هذا العام 2015 ، استطاع الشعب التركي أن يقول كلمته ويفرض قراره ، بصعود حزب التنمية والعدالة برئاسة احمد داوود أوغلو الى سدة الحكم منفردا ، وبدون منغصات احزاب المعارضة التي لا تكف عن مناوأة حزب التنمية والعدالة ، ومؤسسها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان .
لا يستطيع احد داخل تركيا وخارجها ، أن يشكك بِ الانجازات العظيمة لتركيا وشعبها ، التي تحققت خلال حكم حزب التنمية والعدالة ، سواء كان على الصعيد السياسي او الاقتصادي ، او من ناحية ابعاد العسكر عن حكم تركيا ، ووضع حد للانقلابات العسكرية المتتالية ، التي كانت سببا رئيسيا في عدم تقدم تركيا خطوة واحدة الى الامام ، بعكس حالها اليوم بعد أن استطاع أردوغان وحزبه من وضع السياسات الداخلية ، وجعل تركيا دولة لها قيمتها السياسية والاقتصادية في المنطقة والعالم ، وبالتالي لها كلمة ورأي في كل الاحداث التي تشهدها المنطقة .
اعداء أردوغان كثر ، في داخل تركيا وخارجها ، والاسباب ايضا كثيرة ، وأولى هذه الاسباب ، أن الرجل أراد أن يعيد لتركيا هويتها الاسلامية وقد فعل ، بنفس الوقت الذي ينادي بِ علمانية تركيا حفاظا على علاقات بلاده مع الغرب ، وتجنبا لأي صدام داخلي وخارجي ، في خطوة ذكية انتهجها أردوغان وحزبه .
مما اثار حفيظة احزاب المعارضة العلمانية الاتاتوركية ، فما كان منهم إلا أن ناصبوه العداء ، وهم يرون أن تركيا في طريقها لاسترجاع هويتها الاسلامية ، كما أن بعض وسائل الاعلام والصحافة العلمانية التركية ، قد رسمت لها خطا مناوئا لِ أردوغان وحزبه ، ذات التوجه الاسلامي في الجوهر والعلماني في الشكل .
مما حذا بحكومة أردوغان بأن تعصف بالصحافة المناوئة له ولحكومته ، اعتقالا وسجنا واغلاقا لبعض الصحف ، ولا شك بان ذلك كان خطأ ارتكبه أردوغان في محطة من محطات حكمه ، ما زاد من مناوئيه داخل البلاد .
حيث أن على الديمقراطية أن تحتمل كل رأي وفكر مختلف ، ومحطة اخرى لم يوفق بها أردوغان ، وهي مناصرته للقذافي في مواجهة الشعب الليبي وهجمات التحالف ، وعدائه المفاجئ للنظام السوري بعد اندلاع الثورة ، وقد شكل ذلك تناقضا في سياسته الخارجية ، بعد أن كان حليفا قويا لنظام الاسد قبل اندلاع الثورة ، وللرجل مواقف اخرى على الجانب الآخر ، ومنها مناصرته للشرعية في مصر ووقوفه ضد الانقلاب العسكري .
الأمر الذي لم يعجب احزاب المعارضة التركية ، كما لم يعجب جُلّ الحكومات العربية ، فبدأوا بتجييش إعلامهم وأقلام كتّابهم ضده لتشويه صورته ، وقبل ذلك لمن يتذكر ، موقفه من حرب عام 2006 بين حزب الله اللبناني والكيان الصهيوني ، وموقعة دافوس الشهيرة ، ودعمه للمقاومة الفلسطينية في غزة ، ومحاولته كسر حصارها عبر سفينة مرمره وما رافقها من احداث ، في الوقت الذي كانت فيه كل الحكومات العربية بلا إستثناء تشجع على حصار غزة وتشارك فيه .
اخطأ الرجل واصاب ، فلا عصمة لبشر ، اتفقنا معه او اختلفنا ، فهذا لم يؤثر على قرار الشعب التركي في الانتخابات الاخيرة ، ولن يؤثر في المستقبل ، فهم وحدهم اصحاب الحق في تقييم زعمائهم ، وهم وحدهم من يقرر من يحكمهم ، وقد صعدوا بحزبه ليحكم من جديد ، ايمانا منهم بأنه الحزب الأفضل ، وليبقى أردوغان حتى اشعار آخر غصة عالقة في صدور اعدائه ومناوئيه في الداخل والخارج ، وتبقى الحقيقة التي لا تقبل الجدل ، أن العلمانية العربية تحديدا ، ستبقى مناوئة ومناصبة العداء لكل ما هو اسلامي ، حتى لو كان بعيدا عن التطرف والارهاب ، والشواهد على ذلك كثيرة ...