كشفت الموجة الأمطار و الثلوج الأخيرة التي مرت على منطقة بلاد الشام و من ضمنها الأردن و ما نتج عنها من أضرار في كافة المناحي الحياتية و الاقتصادية الأردنية كما حدث في بعض الأنفاق و اضطراب حركة السير من جهة و الأضرار في القطاع الزراعي (وهو موضع اهتمامي هنا) عن الحاجة الماسة إلى تطبيق خطة طوارئ تشمل جوانب وقائية و جوانب علاجية آنية و طويلة الأمد ولا تعتمد على نظام الفزعة، ففي الحقيقة، توجد خطط كثيرة لمواجهة غضب الطبيعة في الأردن و هي من أجمل الخطط و ان كانت للإيفاء بطلبات رئاسة الوزراء أو جهات أخرى، نعم اما اشطرنا بالتخطيط و لكن ما أكسلنا بالتطبيق لا بل ان التطبيق لدينا منعدم.
و في الحقيقة سوف اركز في مقالي هذا على القطاع الزراعي، الذي قضيت أكثر من نصف عمري في خدمته، و كان لي الشرف ان اكتب عن إدارة المخاطر الزراعية من الكوارث الطبيعية في عام 1987 حيث قدمت في ذلك الحين ورقة علمية في هذا المجال. و في بداية التسعينيات من القرن المنصرم شاركت مع بعض الزملاء في وزارة الزراعة في إعداد نظام صندوق دعم و تشجيع الإنتاج النباتي و الحيواني الذي نصت عليه المادة 197 من قانون الزراعة رقم 20 لسنة 1973 و الذي كان ساري المفعول في تلك الفترة، و قد ضمنت نشاطات إدارة المخاطر الزراعية من بين النشاطات التي يقوم بها الصندوق و الذي يأتي تمويله من الغرامات والرسوم وبدل المخالفات التي تتأتي من تطبيق قانون الزراعة و المقدرة في ذلك الوقت بثمانية ملايين دينار أردني، و جرت محاولات لم تلقى اذن صاغية في الحكومة في تلك الفترة لإصدار مثل هذا النظام بحجة الأثر السلبي على واردات الخزينة و هكذا ود هذا المشروع عدة مرات خلال فترة التسعينيات.
و قد تضمنت و وثيقة السياسة الزراعية التي أقرتها مجلس الوزراء عام 1998 و في نفس السياق فقد أكدت الإستراتيجية الوطنية للتنمية الزراعية للعوام 2002- 2010 التي أقرتها الحكومة و باركها جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظة الله على إنشاء صندوق مستقل لإدارة المخاطر الزراعية في الأردن. و فعلا كان لي الشرف ان أكون من الفريق الوطني الذي شكل لإجراء دراسة شاملة عن صندوق إدارة المخاطر الزراعية بما يتوافق مع الظروف الأردنية و طبيعة المجتمع الزراعي الأردني، و التي تضمنت مشروع قانون للصندوق ودراسة جدوى اقتصادية أولية و آليات لتطبيق قانون الصندوق و خطة تنفيذية لمدة سنتين، و قامت فلسفة الصندوق على التشارك ما بين القطاع العام و المزارعين بحيث يساهم المزارع بجزء و الحكومة ترصد مبلغ عند تكوين الصندوق كرأسمال له، و استخدام جميع وسائل إدارة المخاطر كنقل الخطر إلى طرف ثالث (منها التامين) و التعايش مع الخطر و الوقاية من الخطر و ربط التعويض على المزارعين المتضررين من غضب الطبيعة بتبني الوسائل الزراعية الحديثة، إي ان الصندوق سوف يكون أداة من أدوات التنمية الزراعية و استقرار دخول المزارعين، و قد كان جهدا مميزا من الوزير الذي كان في ذلك الوقت حيث اقر في عهده من ضمن ما اقر من تشريعات زراعية قانونين هامين هما قانون صندوق إدارة المخاطر الزراعية و قانون صندوق الثروة الحيوانية و تم إعداد الأنظمة التطبيقية لهذين القانونين و ذلك عام 2008.
و كعادة الحكومات المتعاقبة و التي لا تولى القطاع الزراعية الأهمية الملائمة و لا بل ليس لديه الإدارة الفاعلة للاهتمام بالقطاع الزراعي، فهو خارج أولويات الحكومات الأردنية إلا في الكلام، بقى قانوني هذين الصندوقين طي الأدراج واكفي بتعين مديرين لصندوق إدارة المخاطر الزراعية و لمدة قصيرة لا تزيد عن بضع أشهر لكل من المديرين و طبعا كلا المديرين بعيد كل البعد عن موضوع إدارة المخاطر الزراعية و كائن الهدف إفشال الصندوق، و كانت الحكومات المتلاحقة تصر على إلغاء القانون أو تجميده و بقي الصندوق بدون موارد مالية أو اعتباره مديرية صغيرة في وزارة الزراعة بحيث يكون شكلا ديكوريا لا جسما فاعلا في التنمية الزراعية و مطلبا أكاديميا و سياسيا و جماهيريا للقطاع الزراعي .
و اليوم و قد بدت تظهر الخسائر التي حصلت للقطاع الزراعي، هذا القطاع الذي لا باكيات له، و بعد مرور أربع سنوات على صدور هذين القانونين جاء الوقت و بانت الحاجة الملحة لهذين القانونين فلو كانا موضوعين موضع التطبيق لكانت آثار السلبية لظروف الجوية التي مرت على البلاد اقل ما يمكن من جهة و لباشرت الحكومة بالتعويض على المزارعين من اليوم الذي تلا الظروف الجوية.
اجل نحن بحاجة ليس إلى فقط صندوق إدارة المخاطر الزراعية ذا شخصية اعتبارية مستقلة ماليا و إداريا كون المساهمين فيه مزارعين بالإقساط التي يدفعونها و الحكومة التي تساهم برأسمال الصندوق التأسيسي و هذا سبب كاف ليكون الصندوق ذو شخصية اعتبارية مستقلة ماليا و إداريا، لا بل إلى صندوق وطني للتنمية الزراعية يرصد فيه كافة الرسوم و الغرامات و بدل الخدمات التي تقدمها الوزارة و العائدات الأخرى للوزارة الزراعة يتم الأنفاق منه على الأنشطة الزراعية البحثية و الإرشادية و التطويرية الأخرى.
فالقطاع الزراعي هو نظام حياة متكامل و نظام معيشة و نظام إنتاج و توزيع و لا تقتصر وظائفه في الاقتصاد الوطني فقط على مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي بل يتعداه إلى الوظائف الاجتماعية و البيئية و الاقتصادية الأخرى، و هذا ما أكدت عليه المؤتمرات الأمم المتحدة و قمم الأرض، و أكدت أيضا على ضرورة ان تقوم الدول باتخاذ الإجراءات اللازمة لإدارة المخاطر الزراعية بما يكفل استقرار دخول المزارعين و المنتجين الزراعيين وخصوصا ذوي الملكيات و الحيازات الصغيرة. و ان لم يكن للقطاع الزراعي باكيات و انشغال جمهرة المزارعين بالأرض و الزراعة و الإنتاج لا بصياح و العويل و التنظير في الساحات العامة و الوسائل الإعلام، فهذا لا يعني ان لا تولى الحكومة لهذا القطاع العناية و الاهتمام اللازمين، فالمنتجين الزراعيين المنتشرين في الريف و البادية هم الجنود المجهولين اللذين يعملون على تحقيق السيادة الغذائية و يؤمنون الأمن الغذائي للوطن الذي هو الركيزة الأساسية و المحورية للأمن القومي و المجتمعي و السيادة الوطنية، و لنتذكر ان الزراعة تطعمنا ثلاث مرات يوميا.