وكانت الرحلة إلى العبادة .. إلى الروحانية ، إلى اليقين ، إلى البقعة التي ترنو إليها أفئدة المسلمين .. إلى البيت العتيق حاجا" به .. كانت الحافلة تختال وتختزل المسافات والصور عبر النافذة تحدثني بالكثير إلى أن وصلت إلى نقطة الحدود ( المدورة ) .. وهناك لا بد من كلمة يحملها ختم .. أحرف تلك الكلمة تجتمع على إحدى صفحات جواز سفري لتكون عبارة ( مُغادر ) !!! كم كانت تلك الأحرف كبيرة وثقيلة أمام عيني .. حينها أيقنت الفرق الكبير بين كلمة مسافر ومُغادر واختلاف المعنى العاطفي بينهما .. فالمسافر لا بد له من عودة ... أما المُغادر فقد تم اشتقاقها من غادر الشيء أي تركه إلى غير عوده ..
أمسكت جواز سفري وأغلقته وتابعت بنا الحافلة لتخرج من بوابة الوطن الحدودية التي تحمل كلمة ( مغادرون ) حينها أرجعت وجهي وأزحته من النظر إلى الخلف عن تلك البوابة مبقيا" الروح في شتاتها والحوار بين العقل والقلب في أوجه .. كنت فرحا"بأنني ذاهبا" لأداء مناسك الحج وإكمال فرضا" وهنالك جزء حزين يحمله جسدي لمغادرة الوطن وما أحمله له من معاني .. لكن لا بد للرحلة أن تتم !!!
ازدادت سرعة الحافلة وازدادت معها خفقات القلب .. مجموعة من الركاب نحن وكل منا لديه حلم ربما أو أثار قد تركها خلفه .. البعض يشكو للنافذة ويحدثها بما خلفه وهنالك من هو صامت ينتظر المجهول ضمن رحلتنا .. اجل لقد تابعت الحافلة ليمر أمام المسافات شريط عمري الأربعيني بكل محطاته.. وودت اصطحاب حفنات التراب وبعضا" من حبات هواء الأردن ضمن حقيبة سفري.. وأيقنت وعيا" وإدراكا" كلمات محمود درويش عندما قال : ( وطني ليس حقيبه وأنا لست مُسافر ) !! ..
دوما" وعبر سنيين العمر كنت ولا زلت مُعتزا" بأردُنيتي .. حملتها عنوانا" جميلا" يزهو بالفخار وكنت كل حين استحضر رائحة الدفلى والقيصوم والزعتر .. لم تُزاح من أمام عيني شموخ زيتون بلادي وكبرياء وثبات جباله وجمالية صباحاته ومساءاته وأهله الطيبين ..
وكان أن من الله عليَ الوقوف بعرفات وأداء مناسك الحج والعودة لأرى صورة بوابة ( القادمون ) قبل الوصول بها وكأنه لا بد من استكمال شعائر الفرح والسعادة بالعودة متوجة بختم ( قادم ) ولو كنت أملك الخيار لكتبت بجوارها بخط يدي ( عائد ) فالعودة للوطن كانت أهم عندي من القدوم ..
لتكن كلماتي بمثابة قرابين أنحر حروفها وفية لدفء شمسك يا وطني.. لأننا كثيرا" ما نلهث تحت سماءات الأرض إلا أننا نحملك بمساحات كبيره بين طيات أرواحنا ، فالماضي بك جميل وحتمية جمالية القادم هي جُل دعواتنا فقبل الدعاء لنا قرب البيت العتيق كان الدعاء لك بان تبقى أيها الوطن شامخا" عزيزا" بعيدا" عن منال الحاقدين الجاحدين .. زاخرا" بالأمن والخير والبركة.. أسألك يا الله أن تحفظ الأردن وتجنبه كل سوء وان تبعد عنه الفتن اللهم آمين.
خالد قطاطشه
Khalid.qatatshee@yahoo.com