لم تعد الحروب المعاصرة تُخاض فقط بالسلاح والبارود، بل أصبح الاقتصاد هو الجبهة الأكثر اشتعالًا في عالم تتغير معادلاته بسرعة مذهلة ، لقد دخلنا بالفعل عصر "الحرب الاقتصادية المتصاعدة"، حيث تتخذ الدول من العملة، والتكنولوجيا، والطاقة، والمضايقات التجارية أدوات استراتيجية لتقويض خصومها، وتوسيع نطاق نفوذها العالمي دون إطلاق رصاصة واحدة ، ولعل الحديث عن "الحرب الاقتصادية" لا يعني صراعًا نظريًا أو تحذيرًا مستقبليًا، بل هو توصيف دقيق لما نشهده حاليًا ، فمن واشنطن إلى بكين، ومن موسكو إلى طهران، ومن صنعاء إلى بروكسل، تخوض القوى الكبرى والإقليمية معارك اقتصادية شرسة تستخدم فيها كل أدوات النفوذ المالي والتجاري والعقوبات واحتكار الموارد ، وهذه الحرب، رغم نعومة أدواتها، إلا أنها أشد فتكًا من كثير من الصراعات المسلحة ، فهي تستنزف مقدرات الدول، وتشوه الأسواق، وتُضعف الطبقات الوسطى، وتؤجج التوترات الاجتماعية والسياسية في الداخل، وتعيد تشكيل توازنات العالم ، سيما وأن الصراع الأميركي-الصيني هو النموذج الأوضح لهذه الحرب ، حيث فرضت واشنطن قيودًا صارمة على صادرات الرقائق الدقيقة والتقنيات الحساسة للصين، واعتبرت بكين أن ذلك تهديد لأمنها القومي وتقدمها التكنولوجي، فردّت بإجراءات مماثلة شملت منع تصدير المعادن النادرة التي تعتمد عليها الصناعات الغربية ، وليس الأمر مجرد تنافس تجاري، بل هو صراع على من يمتلك مفاتيح المستقبل: الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمومية، شبكات 6G، والطاقة المتجددة ، وكأن الاقتصاد أصبح ساحة اشتباك سرية بين رؤى الهيمنة ، وما حدث لروسيا
بعد غزوها لأوكرانيا يمظهر شراسة هذه الحرب ، حيث واجهت روسيا عقوبات غير مسبوقة شملت قطاعات الطاقة، البنوك، والتكنولوجيا ، لدرجة أن العواصم الغربية توقعت انهيارًا اقتصاديًا سريعًا في موسكو، لكن الرد الروسي كان مختلفًا ، حيث إعادة توجيه التجارة نحو آسيا ، من خلال تعزيز الشراكة مع الصين والهند، واستثمار ارتفاع أسعار الطاقة لتعويض خسائر الحظر ، وأثبتت التجربة أن الحرب الاقتصادية ليست رصاصة واحدة، بل لعبة نفس طويل واستراتيجية ذكية قادرة على تحويل القيود إلى فرص ، أما
في الشرق الأوسط، فقد بات الاقتصاد ورقة ضغط داخلية وخارجية ، فإيران تواجه حربًا اقتصادية مستمرة تقودها الولايات المتحدة عبر العقوبات، مما أدى إلى شلل نسبي في قطاعي النفط والبنوك، وأثر بشكل مباشر على حياة المواطن الإيراني ، ومع ذلك، تعوّل طهران على اقتصاد مقاوم وسوق موازٍ وشبكة تحالفات إقليمية لمواجهة الضغوط ، وفي اليمن، الحرب الاقتصادية لا تقل ضراوة عن الصراع العسكري ، فمن تعطيل تصدير النفط إلى حرب العملات والقيود البنكية، وبالمختصر تسعى كل الأطراف لشلّ قدرات الآخر اقتصاديًا، حتى ولو كان الثمن هو تعميق مأساة إنسانية غير مسبوقة ، نعم ، لدرجة نستطيع القول فيها أن العالم كله على خط النار ، فالأزمة الاقتصادية لم تعد شأناً محليًا أو إقليميًا ، فالتضخم العالمي، وارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، واضطراب سلاسل الإمداد، وتصاعد الديون السيادية، كلها نتائج لحرب اقتصادية شاملة تُخاض على مستويات متعددة ، في الوقت الذي تعاني فيه منطقة اليورو من صدمات متتالية، أما الاقتصادات الناشئة فتواجه خطر الانهيار، والدول النامية تكافح للنجاة من دوامة الديون والمجاعات ، إنها حرب لا تفرق بين غني وفقير، بل تعيد رسم خريطة التأثير والنفوذ وفقًا لمدى القدرة على التكيّف والمناورة الاقتصادية ، وما نعيشه اليوم يؤكد أن العالم يتجه نحو تعددية اقتصادية وجيوسياسية لا يمكن السيطرة عليها بسهولة ، والعقوبات، والحمائية، والاستثمار في التكنولوجيا الحساسة، والبحث عن مصادر طاقة بديلة، أصبحت سمات النظام العالمي الجديد ، فالاقتصاد لم يعد مجرد وسيلة للرفاه، بل أداة صراع سياسي وجيوسياسي مرعبة، تُستخدم للهيمنة أو للمقاومة، بحسب موقع كل دولة من خارطة الصراع ، والسؤال ضمن هذا السياق
: من يربح هذه الحرب ؟!! وللإجابة نقول : لا أحد يربح حقًا في الحروب الاقتصادية، فالخسائر تصيب الجميع، وإن كانت بنسب متفاوتة ، لكن من سينجو ويصعد هو من يستطيع أن يفكر استراتيجيًا، ويطوّع أدواته الاقتصادية بذكاء، ويُعيد بناء نماذجه التنموية لتكون أكثر مرونة وشمولًا وعدالة ، وهنا بوصفنا مؤسس للهيئة الجليلة على المستوى العالمي ، نقول للجميع : لقد دخلنا زمنًا لا تُحسم فيه المعارك في ميادين القتال، بل في مكاتب وزارات المالية والتجارة، وبين سطور السياسات النقدية والتقارير الاستثمارية ، إنها حرب بلا ضجيج ، ولكن بصدى عالمي مدوٍّ ... !! خادم الإنسانية.
مؤسس هيئة الدعوة الإنسانية والأمن الإنساني على المستوى العالمي .