بعد سقوط بغداد على يد الأمريكان واحتلالهم لها في التاسع من شهر نيسان عام 2003 بقي الرئيس العراقي صدام حسين - رحمه الله - مطاردا حتى تمّ أسره في الثالث عشر من شهر كانون أول من نفس العام ، وجرت محاكمته بعد الإعتقال لعدة شهور حتى نُفذّ به حكم الإعدام صبيحة عيد الأضحى في 30 كانون أول عام 2006 .
ومن بعد زوال النظام سعت الحكومة العراقية لتأسيس فريق إعلامي جديد ، فعقدتْ مع الأردن اتفاقا لتدريب هذا الفريق من خلال إقامة دورات تدريبية لأعضائه في عمان ، وبالفعل حضر عدد من الشباب العراقيين على دفعات متفاوتة من تخصصات مختلفة لتدريبهم على التحرير الصحفي وإعداد التقارير التلفزيونية وقراءة النشرات الإخبارية وأعمال المونتاج والتصوير والإخراج وغيرها من الإختصاصات المهنية ، كما اشتملت الدورات إلقاء محاضرات مكثّفة بواسطة نخبة من الإعلاميين الأردنيين والعرب .
في عام 2005 حيث لا زال الرئيس صدام حسين يخضع للمحاكمه ، كنتُ محاضرا في إحدى تلك الدورات في مقر اليونسكو بعمان ، ولاحظتُ على المتدربين في القاعة إصرارهم وبحقد شديد على الإساءة لرئيسهم ، ولا يكفّوا عن الإتيان بسيرة صدام وشتمه في كل وقت وبدون مناسبة حتى أحسستُ أنهم يقصدون إستفزازي لعدم محاباتي لهم ، فلم أعد حينها ضابطا لأعصابي بسبب خروجهم المتكرر عن موضوع المحاضرة ولقهري أيضا من الأمريكان المحتلين للعراق الشقيق .
وعلى الرغم من نُصحي المستمر والدائم للإعلاميين المتدربين والمبتدئين بضرورة عدم انفعال الصحفي بشكل عام في الحوارات والنقاشات إلا أنني لم أطبّق على نفسي هذه النصيحة ، فتلاسنتُ خلال إحدى المحاضرات مع أحد الشبّان العراقيين الشامتين للنظام السابق حيث تكاتف معه جميع زملائه المتدربين ، فارتفعتْ أصواتهم وعلا صراخهم وهم يلعنون صدام حسين ومن والاه ويسوقون الأمثلة الكثيرة لمساويء حكمه ، وأشعروني بنقاشهم أنهم يفضلون الوجود الأمريكي في العراق على بقاء صدام في الحكم ، فالتزمتُ الصمت على مضض حتى يعود الشباب الى مقاعدهم التي غادروها عند إحتدام النقاش ، وبعد ختام المحاضرة جاء أحد المسئولين العراقيين واستأذنني بالحديث على إنفراد مع المتدربين فتركته معهم ، وفي اليوم التالي حضر نفس المسئول واعتذر لي عن تصرفات الشباب غير الملامين على حد رأيه بسبب ما عاناه الشعب العراقي في عهد صدام حسين من حصار شامل استمر ثلاثة عشر عاما .
إنني أقول دائما وأنصح المبتدئين في المهنة الإعلامية بضرورة أن يتجنب الصحفي بصورة عامة الإحتكاكات والمناكفات مع الناس ، لكنّي إكتشفت نفسي أنني على خلاف ما أقول ، حيث كان إستمراري في الحوار مع المتدربين المعارضين لصدام مرفوضا ، وإنفعالي في النقاش معهم مغامرة خاطئة لا يجوز أن تصدر عن إعلامي يُعطي دروسا في الحلم وسعة الصدر وتقبّل الرأي والرأي الآخر .. ولأنّ السياسة لا مبدأ لها فينبغي على الصحفي التعامل مع الأحداث الطارئة والمستجدات السياسية بأعصاب هادئة وصدر واسع ، فلا يتعصّب أو ينحاز لرأيه وتوجهاته سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية وغيرها ، لأننا في الوطن العربي تعوّدنا على التعامل مع السياسة بطريقة غير مهذبة ، نثور مرة واحدة ونهدأ وننسى بعد حين ، ونخطيء كثيرا ولا نكتشف أغلاطنا إلا في أوقات متأخرة ، وجيلنا يعرف كم عمل الإعلام العربي منذ سبعين عاما على تضليلنا وخداعنا وهو يتحدث عن انتصارات زائفة وبطولات وهمية لقيادات عربية جرّت بلدانها الى حروب مدمّرة ومواجهات خاسرة حتى أوصلت شعوبها الى حالة مريرة من الحصار والجوع والذل والمهانة ، فتحطّم مستقبلها وتشتّت أبناؤها بين لاجيء ومهاجر ، ثم نخرج في النهاية فنصفق للرئيس ونبالغ بتمجيده وتعظيمه ، وننعته بالقائد المظفّر المقدام الفذ الشجاع ، لكنّ التاريخ لن يرحم في توثيقاته عندما يصنّف أولئك القادة ويضعهم في خانة المجرمين بحق أمتهم وشعوبهم وأوطانهم .