الفشل الذي تشهده بعض البلدان العربية، في تجسيد التآخي والتعايش الإنساني، بين أطياف المجتمع، بين المسلمين وغيرهم من الأديان، بل وبين المسلمين أنفسهم في كثير من الأحيان، ليس مرده الضغوط السياسية، بقدر ما هو الرغبة في تحقيق مكاسب سياسية، على حساب بقية مكونات المجتمع، وليس الفقر أو الوضع الاقتصادي المتردي، بل هو في حقيقته، جشع يدفع صاحبه للتنكر للحق؛ بغية الحفاظ على مكتسبات ومصالح تجارية، وهو أيضا فهم مشوه من بعض الجماعات الإسلامية، للإسلام وطبيعة علاقته بالآخرين.
ان التصور الأمثل لما ينبغي أن تكون عليه علاقة المسلمين بغيرهم من بني الإنسان مواطنين وغير مواطنين، مغاير تماما لما هو عليه واقع الدول العربية والإسلامية اليوم.
إن الغاية من بعث الرسل، وإنزال الكتب، هو القيم والأخلاق؛ التي ترقى بالإنسان إلى مستوى إنسانيته، وفطرته السليمة التي خلقه الله عليها.
لذلك نجد القرآن يعمق هذا المعنى بسماحته ليشمل كافة الأجناس الإنسانية دون استثناء على إنسانية الإنسان.
قال تعالى: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون).(ال عمران 64) فالقرآن هنا يؤسس للتوحيد، ولوحدة الكلمة، وللمساواة بين الناس ورفض التسلط والاستبداد، والتزام السلم، فهو يتحدث عن قيم وأخلاق عالمية، يتلاقى عليها كافة البشر، على اختلاف أديانهم ومشاربهم وأوطانهم ومصالحهم.
ما التسامح فهو ثمرة للتعايش ونتيجة عنه، فلا يمكن أن يكون التسامح إلا بعد عيش مشترك لجماعة من الناس، تحمل أفكاراً وتصورات متباينة، وتمارس عادات متنوعة، وتنتمي لديانات مختلفة. وهو قيمة راقية لا تصدر إلا عن نفوس كريمة، فكم من المجتمعات بحاجة ماسة لها؛ للتخلص من كثير من المشاكل التي تكاد تعصف بها الأخلاق الدينية التي تؤسس لمعاني التنوع والتعارف وكرامة الإنسان المطلقة، وقيم العدل والحق والإحسان، والمودة والمحبة والرحمة، وعمارة الأرض؛ لذلك قال تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين".
وهذا لن يتحقق إلا في ظل القيم الأخلاقية والروحية، الكفيلة بضبط المقاصد الكبرى لكل ممارسة دينية أو سياسية أو فكرية، تلك القيم الأخلاقية التي تسعى عبر التوسل بالعقل كآلية منطقية ضرورية، وإلى الحوار والتواصل والمناظرة في سبيل تدبير الاختلاف؛ لترسيخ مبدأ التعايش والتسامح، فهي قيم متكاملة مترابطة تبتغي اللقاء والتلاقي على أسس "الكلمة السواء"، التي يمكن أن تجتمع عليها كل الديانات والحضارات والثقافات