اعتادت ليبيا طوال عهد رئيسها السابق معمّر القذافي على الإحتفال سنويا بذكرى ثورة الفاتح في الأول من سبتمبر أيلول من كل عام ، احتفاء بإنقلاب عام 1969 الذي أطاح بالملك محمد ادريس السنوسي وأجبره على مغادرة بلاده الى مصر ، حيث عاش فيها وأسرته حتى توفاه الله عام 1983 .
كانت ليبيا حريصة في هذه المناسبة على دعوة وفود رسمية وشعبية وإعلامية من مختلف بلدان العالم لحضور الإحتفالات ، وفي مطلع التسعينيات تمّ إختياري ضمن الصحفيين المكلّفين بتغطية مهرجان الفاتح العظيم ، فغادرتُ الى العاصمة طرابلس حيث شاهدتُ شوارع المدينة ممتلئة بالفوانيس الملوّنة وحيطانها مغطّاة بالصور واليافطات الممجّدة للقذافي ، وفي اليوم التالي لوصولي الجماهيرية العظمى توجهت برفقة الوفد الصحفي الى ميدان الإحتفال الذي اشتمل على عروض مختلفة للقوات الليبية ووحدات الشعب المسّلح واللجان الثورية وخاصة النسائية .
كان القذافي جالسا في المقصورة لا يجامل أحدا من ضيوفه بسبب داء العظمة الذي يلازمه ، يمضي وقته في كل جلسة محلّقا في الفضاء بحركات بهلوية ، وخلال مجريات العرض وقف الزعيم العظيم ملك الملوك ليرتجل على المنصّة كلمة استغرقت ما يزيد على ثلاث ساعات حتى انتاب الحاضرين خلالها ملل شديد وهو يتحدث شرقا وغربا ، وفي هذه الأثناء كانت تجلس على يميني سيدة ليبية ظننتها صحفية زائرة ، فلاحظتْ عليّ الملل والإكثار من التثاؤب وبعد أن عرفتْ من خلال ( الباج ) أني أردني رحّبتْ بي وسألتني عن رأيي بالقذافي فقلتُ لها من غير تفكير إنه أهوج ، فعضّتْ على شفتها وبدتْ مصدومة من الإجابة ، وراحتْ تنظر من حولها وهي متوترة خشية أن يسمعنا أحد ثمّ طلبت منّي أن نلتقي على انفراد بعد الإحتفال ، وفي هذه اللحظة شعرتُ بالقلق بسبب إجابتي المتسرعة لهذه السيدة خاصة بعد معرفتي أنها رئيسة الإتحاد العام للمرأة الليبية ، وهنا عدّلتُ جلستي وتظاهرتُ بمتابعة خطاب القذافي الذي كان يُشيد فيه باللجان الشعبية والقوى الثورية ، ويشرح بإسهاب عن ثورته العالمية التي وصفها بثورة الحرية والكرامة ، ثورة الانجازات الحضارية العملاقة ، الثورة التى وحّدت أفريقيا وأقامت النهر الصناعى العظيم ، الثورة التي سلّمتْ السلطة للشعب وحررته وأنتجت له الكتاب الأخضر ، وفي خطابه أيضا بشّر ( إمامُ المسلمين ) الأمة العربية بأن ثورة الفاتح التاريخية ستقدم لشعوبها طريق الخلاص النهائي لكافة مشاكلهم .
وعند انتهاء الحفل أصرّت رئيسةُ لجان المرأة الليبية على مرافقتي الى خارج الميدان ، حيث أعربتْ لي عن دهشتها من إجابتي عن سؤالها حول القذافي ، وقالت إن المواطن الليبي لا يجرؤ على هذا التصريح الخطير لكنّها أشعرتني بالأمان ، ثمّ طلبتْ منّي الحديث بصراحة حول إنطباع العرب عن قائدهم الفذ ، فقلتُ لها إن غالبية الشعوب العربية تصفُ القذافي بالمجنون ، فأخذتني بعيدا عن المحتفلين وقالت لي إنك حقيقة غامرتَ بكلامك ، ولو سمعك أحد أفراد الأمن فلن تعود حتما الى بلادك ، لكنّي – والكلام يعود للسيدة – أؤيدك بما قلت ، وساقتْ لي أمثلة عديدة ، ومنها تشجيع القذافي للمرأة الليبية بالتمرد على زوجها والإستقلال برأيها ، حيث كان يأمر بين وقت وآخر بلقاء اللجان النسوية بعد صلاة العشاء ولا يُنهي الإجتماع بهنّ إلّا في وقت متأخر من الليل ، ثمّ يوصي النسوة بنهاية اللقاء بتحدّي الأزواج في حالة اعتراضهم على التأخير ، فقلتُ لها ربّما لا تعرفون كثيرا عن صرعاته الجنونية التي نقرأ عنها دائما في الصحافة العربية لأن إعلامكم يركّز فقط على بطولات القذافي الوهمية ، ويقنعكم بأنه القائد المُلهم والأوحد في عصره ، لكنْ سيأتي اليوم الذي تكتشفون فيه الحقيقة وتخسرون بلادكم بسبب سياسته المتغطرسة ، وختمتْ السيدة الليبية حديثها بإسداء نصيحتها لي بتجنب الهفوات وحفظ اللسان ، ثمّ تغيّرت ملامحها وتحوّلتْ بإسلوبها فجأة فبدتْ غاضبة وقالت ، لولا أنك ضيف على الدولة لأبلغتُ القوة الثورية عنك لتنال نصيبك ، فتركتني وانصرفت بلا وداع ، وهنا أيقنتُ أن استدراجها لي كان خدعة لقراءة ما يدور في ذهني وكشف مكنون سرّي ، فهذا بالطبع درس مفيد لي احتفظتُ به لنفسي ولن أنساه ، ومع كلّ ذلك حمدتُ الله على سلامتي من هذا الفخ .