تصادف اليوم الذكرى الثالثة والاربعون ، لاغتيال الشهيد وصفي التل ، رئيس الوزراء الاسبق ، والرمز الوطني الاردني ، الذي تعاقبت على تخليد ذكراه اجيال جديدة ، ولدت بعد استشهاده ، فتناقلت سيرته ، واحبه الاحفاد ، الذين لم يعاصروا عهده ، لما سمعوا عنه من الآباء والاجداد ، ما هو مبعث للفخر بتلك القامة الوطنية الشامخة ، انها حالة نادرة من العشق الصادق ، لا يحظى بها الا العظماء ، الذين خلد التاريخ سجل حياتهم .
لقد كان وصفي التل ، حالة استثنائية للشعب الاردني بكل المقاييس ، بمقاييس عصره ومقاييس هذا الزمن ، عشقه الشعب الاردني منذ بداية الستينات ، عندما تولى قيادة السلطة التنفيذية للمرة الاولى ، كما احبه في المراحل اللاحقة ، فقد عشق الشعب الاردني في وصفي التل ، بساطته وتواضعه ونزاهته واخلاصه لوطنه ، وشجاعته في الحق ، ووضوح مواقفه ، والتزامه بوعده ، والتصاقه بشعبه ، وخاصة الكادحين منهم ، وهو الذي كان يسمي نفسه بالحراث ، ويفخر الاردنيون من بعده ، بان يطلقوا على انفسهم ابناء الحراثين .
وصفي التل كان اشتراكيا دون ان يكون يساريا ، ملتصقا بالكادحين من فلاحين وعمالا وجنودا وصغار الموظفين ، ففي عهده انشئت مؤسسة الاقراض الزراعي ، ومدينة الحسين الطبية ، والجامعة الاردنية ، واقر التامين الصحي ، ومجانية التعليم ، وتم انشاء الطرق في الارياف ، وايصال المياه لها ، واذكر زيارته لبلدتي السماكية عام 1966 ، ونحن اطفالا حضرنا لاستقباله ، عقب انشاء طريق معبدة تصل للبلدة لاول مرة ، مع ايصال المياه ايضا ، وقد كانت قبل ذلك طريقا ترابية حتى بلدة الربة ، وكانت مياه الشرب نحصل عليها من الابار ، وكانت زيارته ضمن زيارات لكل مناطق المحافظة ، التي وصلتها كل تلك المشاريع في عهده ،وقد سبقت تلك الزيارة زيارة جلالة الملك ، الذي افتتح تلك المشاريع لاحقا ، زيارة التقى فيها مع المواطنين على مدخل البلدة لدقائق ، لضيق الوقت ، في جولة شملت كل قرى المحافظة ، واذكر كيف انه بعد مصافحة المواطنين ، اخذ ينادي فيهم " يا اخوان مين الو مطالب" ، وبدأ بجمع الاستدعاءات المكتوبة القليلة ، ومن المعروف عن الشهيد صدق وعده ، فان وعد نفذ ، وان لم يكن هناك امكانية للتنفيذ ، اعلن ذلك مباشرة بعد الاطلاع على اي طلب .
وصفي التل اشتهر ببساطته ، في لباسه حيث كانت بذلة الفوتيك الخضراء ، هي ما يرتديها على الاغلب ، في تشابه مع ما كان يرتديه رئيس وزراء سوريا انذاك يوسف زعين ، وبساطته في التعامل مع الكادحين من المواطنين ، حيث كان يفترش الارض معهم ، ويشاركهم طعامهم البسيط ، ويساعد من يجده في طريقه ، وقد ذكر العديد من القصص عن تحميله لمواطنين ينتظرون وسيلة نقل على الطريق ، اثناء سيره من منزله في الكمالية ، الى رئاسة الوزراء في عمان ، وبعضهم كان يوصي سائقه لاحقا ، بايصالهم الى مقصدهم حتى خارج عمان ، بعد ان يسمع بحاجة ملحة لهم ، وعدم توفر وسيلة نقل لهم ، او عدم توفر المال لديهم ، مع منحهم بعضا من ماله الخاص ، وهو الذي لم يعتمد الا على راتبه ، حيث كانت الديون متراكمة عليه بعد استشهاده ، ويذكر المواطنون كيف طلب تقسيط مبلغ ستة دنانير على ثلاثة اشهر ، وهي تكلفة تركيب ثلاثة اعمدة هاتف لمنزله في الكمالية ، وهو رئيس الوزراء ، صاحب الولاية العامة ، التي تقتضي ان تكون هذه الكلفة المتواضعة على حساب الخزينة .
وكم من القصص ذكرت عن بساطته ، فحين تعطلت سيارته مرة على دوار الداخلية في اجواء ماطرة ، نزل مع السائق لدفعها وتحريكها ، وكيف كان يساعد في حراثة ارض منزله وزراعتها ، وهو الذي وضع جل اهتمامه ، الاهتمام بالزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء ، وهنا يخطر ببالي منطقة تلاع العلي الزراعية ، والتي تحولت لاحقا الى غابة من الحجارة ، التي كان يمر بها في طريقه من المنزل الى رئاسة الوزراء ، والتي كان يعتبرها سلة الاردن الغذائية ، ويسميها الحدائق ، ومن هنا ربما جاء اسم الشارع الرئيسي فيها الجاردنز Gardens ، وهو الشارع الذي اصبح يحمل اسم الشهيد وصفي التل .
لقد كان الشهيد وصفي التل عدو الفساد الشرس ، والذي كان يخشى كل ضعاف النفوس من المسؤولين ، التطاول على المال العام في عهده ، لا بل فرح بعضهم باغتياله ، كي تطلق ايديهم بهذا المال ، ويذكره الاردنيون اليوم ، وهم يعانون من اخطبوط الفساد .
آمن وصفي التل بالانفتاح على كل القوى السياسية ، فكان الافراج عن المعتقلين السياسيين في عهده ، في عام 1966 ، واستطاع ان يجعل العديد منهم شركاء في الحكم ، فكانت لهم بصمات واضحة في بناء الاردن الحديث ، مستفيدين من تجربتهم السابقة .
وصفي التل القومي ، ابن شاعر الاردن الوطني المشاكس ، مصطفى وهبي التل "عرار" ، الذي بدأ حياته السياسية بالانتماء الى تنظيم القوميين العرب ، وخدم في الجيش البريطاني بناء على طلب التنظيم ، كي يكتسب التدريب العسكري ، والذي طرد من الجيش البريطاني لميوله الوطنية والقومية ، وصفي التل الذي قاتل في فلسطين وجرح ، وصفي التل صاحب شعار 'عمان هانوي العرب' ، وصفي التل الذي عشق النظام والانضباط وكره الفوضى ، وأمن بضرورة تحرير فلسطين ، من خلال حرب جيوش نظامية وحرب عصابات ، وهذا ما اراد انجازه بين الجيش الاردني والفدائيين ، ضمن خطة قومية عربية للدفاع المشترك ، وهذا ما اراده من مؤتمر وزراء الدفاع العرب ، الذي اغتيل غدرا اثناء حضوره ، وصفي التل الذي عشق الاردن كما عشق فلسطين ، لا يجوز ان نتجاهل كل مراحل حياته السابقة ، في وزاراته الثلاث منذ عام 1962 ، وفي مواقع مسؤولية اخرى قبل ذلك ، فنقوم بتقييمه عاطفيا ، سواء حبا او كراهية ، من خلال اخر عام في حياته ، تلقفنا فيها الاتهامات الكاذبة ، التي تلقى جزافا وبعشوائية ، لتصيب البريء مع المتهم ، ولتكشف لنا الايام ، سطحية وزيف العديد منها ، ونحن نعلم ان الله لم يمد في عمره ، لنعرف منه كثيرا من الحقائق الغائبة .
الشهيد وصفي التل كان ثروة وطنية وقومية خسرناها ، وها هي الايام توفر لنا المزيد من المعلومات عن فكره الوطني القومي ، وعن خصاله التي عز نظيرها ، بعد ان تعرضت سيرته العطرة للتشويه ، لقد كنت اتصور لسنين خلت بعد استشهاده ، انني لو جالست قياديا بعثيا او شيوعيا ، فسيكيل الاتهامات للشهيد وصفي التل ، لكنني فوجئت شخصيا بعكس ذلك ، عندما سمعت الاشادة بمواقفه الوطنية والقومية ، من احد اقطاب البعث في الاردن ، وهو المرحوم محمود المعايطة ، الامين العام لحزب البعث العربي التقدمي ، وهو البعثي الصلب غير المهادن حتى اخر لحظة في حياته ، سمعت حديثا له يشيد بشهيد الوطن وصفي التل وبمواقفه ونزاهته ، كل هذا اضافة الى كتابات عديدة ، وشهادات شفهية من قوى وطنية وقومية ويسارية اخرى ، كان من المفروض ان تناصب الشهيد وصفي التل العداء ، لو صحت اتهامات الاقليمية وغيرها ضده ، من قصيري النظر وعشاق الاتهامات العشوائية السطحية الساذجة .
لقد قيل الكثير عن القتلة الحقيقيين للشهيد ، وعن اتهام للسلطات المصرية في عهد السادات ، او تواطئها في ارتكاب الجريمة ، وعدم توفير الحماية الكافية له ، وعجزنا عن تفسير الافراج السريع عن القتلة الظاهريين ، وهذا ما يشير الى ان اغتيال الشهيد ، ساهمت فيه ايدي اعداء الوطن والامة ، لما كان يمثله الشهيد ، من خطر على مخططات الاعداء ، عبر مواقف وطنية وقومية صادقة معلنة ، وهو الذي اذا قال فعل .
لقد اصر الشهيد على حضور مؤتمر وزراء الدفاع العرب ، وهو رئيس الوزراء الذي يحمل حقيبة وزارة الدفاع ، وبامكانه ارسال مندوب عنه ، رغم تحذيره من خطر ذلك ، حيث الح عليه جلالة الملك الراحل الحسين بن طلال ، والعديد من المسؤولين ، ان لا يسافر الى القاهرة ، لكن اصراره على الذهاب ، كان ينم عن شجاعة وتحد ، وايمانا بالقدر الذي لا مفر منه .
مالك نصراوين
m_nasrawin@yahoo.com
28/11/2014